يستمر الصراع في المنطقة وعلى الساحة السورية، والعنوان هو الحرب على الإرهاب، والأولوية وطنية وقومية وإن غابت بعض المعالم بسبب التشويه والتسويق الجاري واختلاط المفاهيم.
وفي الصراع الدائر تبدو الأمور على حقيقتها، هناك المشروع الأميركي وأدواته الإقليمية والمحلية، وهناك قوى الأمة ممثلة بمحور المقاومة ومَن يقف معه في وجه الهجمة التي تستهدف سوريا والمنطقة ومن خلال ذلك يريد الأعداء تصفية قضايا الأمة وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، والبعض من الدول المرتبطة بالعجلة الأميركية إختارت التلطي بقوى الهيمنة الأميركية في سبيل الحفاظ على مصالحها الآنية على حساب مصلحة الأمة وقضاياها، والبعض منهم مازال يراهن على الإستثمار في الدمار الذي يمثله الإرهاب المدعوم بالفكر التكفيري وبأموال نفط العرب الذي يتحول الى رهينة بأيدي أصحاب المشروع الذي يستهدف بلادنا.
والحرب على سوريا وعلى اليمن لم تأتِ من فراغ، المشروع واحد والأدوات ذاتها، والهدف التفتيت والتقسيم وإثارة الحروب والفتن ما بين المذاهب والطوائف بما يؤدي الى إضعاف مناعة الأمة على المقاومة، وتكرار ما حصل في العراق بعد الإجتياح الأميركي له عام 2003 وتداعياته المستمرة، وتستهدف مقاومة الأمة لأنها رفضت الخنوع وواجهت المشروع في حرب لبنان عام 2006.
نجحت سوريا بجيشها وقواها الحية ومعها قوى محور المقاومة في مواجهة الحرب العالمية التي شُنّت عليها من خلال “الكم الهائل من عصابات القتل والإجرام والمدعومة بالفكر التكفيري والمال المنهوب من مخزون الأمة”، والمكرّس في خدمة الأجندة الأميركية في المنطقة، وخلال سنوات الصراع والمواجهة واقتراب الحسم منذ العام 2011 وحتى اليوم.
بدأت تتضح الحقائق وزادها وضوحاً وجود العامل الروسي في خط المواجهة وتحديداً في الحرب على الإرهاب الذي بدأ يهدد روسيا وجميع دول العالم وأيضاً بدأ يرتد على داعميه الذين راهنوا على الإستثمار فيه ومنهم الجانب التركي حيث يحلم الرئيس أردوغان بتحويل بلاده الى نظام رئاسي كمقدمة لعودة الإمبراطورية العثمانية الجديدة وحكم الخلافة، وثبت بأن سيناريو “داعش” ما هو إلا الصورة المصغرة لحقيقة ما يدبّر للمنطقة.
وفي المعارك الأخيرة التي شهدتها مدينة حلب، كان القرار لدى القيادة السورية بأن حلب ستعود الى حضن الوطن عزيزة محررة من العصابات الإرهابية، وكان النجاح بفرض الحصار على التنظيمات الإرهابية التي تتلقى أوامرها من الجوار الإقليمي والأميركي.
وعملت القيادة السورية بكل حكمة وشجاعة عندما فتحت ممرات إنسانية في حلب والعفو الرئاسي الذي صدر بعودة مَن يريد الى الحياة الطبيعية في كنف الدولة السورية وكان الهدف تفويت الفرصة على أصحاب المشروع وخطوة لتثبيت الإنتصارات والتمهيد لجولة حسم جديدة، لكن القيادة الإقليمية والدولية التي تدير الحرب على سوريا، فضلت أن تبقى تلك التنظيمات المسلحة في الميدان ورفض الفرصة لتسوية أوضاع المسلحين المغرر بهم.
وعملت إدارة العدوان على الزج بكمٍّ هائل من المسلحين من التنظيمات الإرهابية المسلحة على مختلف تسمياتها تحت مسمى فك الحصار المفروض على المسلحين الآخرين في حلب، واستمرار حرب الإستنزاف، ولهذا أسبابه منها فشل الأعداء من تحقيق أي هدف سياسي من حربهم على سوريا ويعمل الجانب الأميركي على تجنّب أي خسارة على أبواب الإنتخابات الرئاسية ورغبة أردوغان تركيا الإبقاء على دوره في الإستثمار الى أقصى حدود في هذه الحرب، وجاءت معركة حلب الأخيرة بالتوازي مع زيارته لموسكو ومباحثاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي الوقائع، إن قرار سوريا الإمساك بالقرار والسيطرة على حلب وتخليصها من الإرهاب هو قرار لا رجعة عنه، وما يجري الحديث عن إنتقال أردوغان من ضفة الى ضفة أخرى في معادلات المنطقة، مثل هذا لم يأتِ أوانه بعد، وهو مرتبط بالحسم في الميدان وتثبيت معادلة جديدة مختلفة، وأما التغيير الحقيقي فسيأتي بعد إنهزام المشروع الذي يستهدف سوريا وقوى المقاومة في أمتنا.
وحقيقة ما يجري من إنقلاب أردوغان الأخير والإنقلاب عليه من باب الفرضيات، وزيارته موسكو، أراد هذا استثمار ما حصل (السيناريو) من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية وفك عزلته وإنتظار لحظة الحقيقة وهو يترقّب هزيمة المشروع الذي ساهم فيه بنصيب كبير ويراد تجنّب الخسائر القادمة، وفي مواكبة الإنقلاب المفترض عليه، أراد أن يبدأ خطوات بإتجاه موسكو وهي خطوات إستباقية تبشر بفشل المشروع الأكبر في إدارة العدوان على سوريا.
وفي ختام مباحثات أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سان بطرسبرغ، أكّد بوتين أن “أهداف روسيا وتركيا متطابقة”، وتبدو الجملة قصيرة إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من المؤشرات والدلائل، فسّرها أردوغان بقوله: “سنفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين وستسهم بقسط كبير في حل العديد من قضايا المنطقة”.
بالتأكيد إنقلاب “فتح الله غولن”، إن كان حصل في الواقع أو لم يحصل أصلاً، إتّخذ منه أردوغان ذريعة للقيام بإنقلاب آخر يؤمن له فرصة لتغيير سياساته التي ثبت فشلها في ملفات عديدة في المنطقة وفي الأزمة السورية بشكل خاص، لذلك كان الإنفتاح على روسيا، وهذا سيحقق له جملة من الفوائد، في الشأن الداخلي وأزمته بجميع جوانبها، وفي أزمته الإقتصادية الناجمة عن تدهور علاقاته مع روسيا، ويحاول التنصل من ملف الإرهاب وتداعياته بعد أن أصبح الإستثمار فيه خاسراً.
الأمر الهام واللافت ما قاله الرئيس بوتين في المؤتمر الصحافي المشترك مع أردوغان: “إن تركيا وروسيا ستعاودان العمل للوصول بحجم التجارة الثنائية الى 100 مليار دولار سنوياً والمضي قدماً في مشروع بناء خط أنابيب نقل الغاز “السيل التركي” أو “ترك ستريم”، الواصل من روسيا الى تركيا ومن ثمّ الى أوروبا”.
هذا مؤشر على فشل الحرب على سوريا من تحقيق أهدافها والتقارب “الروسي – التركي” سيساهم في إيجاد حلول لملف الإرهاب وتداعياته.
وأكّد الجانبان “عزمهما التوصل الى تفاهم مشترك للتسوية في سوريا”، و”أننا ننطلق من استحالة التوصل الى تحولات ديمقراطية إلا بالوسائل الديمقراطية” أي لا مكان للخيار العسكري.
زيارة أردوغان لموسكو، تخلط الأوراق خاصة من الأزمة السورية، لكنها ستعزز من قوة الدور الروسي في المنطقة وسيكون لها ما بعدها وهذا مرتبط بمدى الحسم في معركة حلب وما حولها.
ومع اقتراب الإنتخابات الرئاسية الأميركية، هل يفعلها أردوغان ويلعب في الوقت المتبقي؟ هل سيكون شريكاً مع روسيا في التفاهمات ذاتها التي أبرمها وزير الخارجية الأميركية جون كيري في موسكو؟.
أمام أردوغان فرصة محدودة ليكون عراب الفصل ما بين المعارضة المرشحة للمشاركة في العملية السياسية؟ فهل من خارطة طريق جديدة ودور روسي جديد وهذه المرة من خلال تفاهمات مدينة سان بطرسبرغ؟