دائماً ما يختلط على غير المتخصصين العلميين من متابعي الشؤون السياسية بين ما هو قانوني وما هو شرعي في الدساتير والأنظمة السياسية. حيث أن في الأنظمة الديكتاتورية لا فرق بين القانون والشرعية، لأن الشرعية تأتي من الحاكم الذي تم وضع قوانين البلد لخدمة مصالحه وسلطته، كأنظمة الحزب الواحد أو الملك الحاكم أو العسكر.
أما في الأنظمة الديمقراطية وشبه الديمقراطية، أي الأنظمة التي توجد فيها انتخابات ويتم فيها تداول السلطة وتتنازعها الأحزاب ومجموعات الضغط المؤلفة من تجمع أصحاب المصالح مثل النقابات، فالفرق شاسع وكبير وعميق بين ما هو قانوني و/أو دستوري وما هو شرعي.
ففي الدستور اللبناني بند رئيس كان قبل تعديلات الطائف وما زال، يقول أن الشعب اللبناني هو صاحب السيادة ومصدر السلطات يمارسها (أي يمارس هذه السلطات) من خلال المؤسسات الدستورية. وعليه، لا يحق للشعب ممارسة سلطاته بكيفيته، بل من خلال المؤسسات الدستورية التي تستمد شرعيتها من الشعب الذي يختارها لممارسة سلطاته من خلالها. من هنا، يتم اعتبار مجلس النواب الممدد لنفسه مجلساً قانونياً، لكنه ليس شرعياً، لأن شرعيته المستمدة من الشعب في نظامنا الإنتخابي والحزبي وحتى الطائفي، قد انتهت بانتهاء مدة ولايته التي على أساسها انتخبه الشعب.
لذلك، فإن الدستور اللبناني الجديد المبني على اتفاق الطائف قد تم اعتماده من قبل مجلس نواب فاقد للشرعية. آخر انتخابات نيابية قبل تعديلات الطائف كانت في العام 1972، وفي العام 1975، أي قبل سنة من انتهاء ولاية مجلس النواب، إندلعت الحرب الأهلية اللبنانية ليتم التمديد لمجلس العام 1972 أربعة ولايات متتالية. وخلال ولايته الرابعة المددة، وبعد وفاة أكثر من ثلثي أعضائه، قام بالتصديق على تعديلات الطائف. وكي تكون التعديلات “قانونية”، وحيث أن أكثر من ثلث أعضائه كانوا في ديار الحق، تم “تعيين” نواب كي يكتمل النصاب ويكون التصديق على التعديلات الدستورية قانونياً. علماً أن “التعيين” ليس فقط غير دستوري وغير شرعي، بل هو بكل المقاييس غير قانوني وغير أخلاقي… كيف يتم تعيين “نواب عن الشعب” لم يختارهم الشعب أصلاً، لا في حينه ولا في العام 1972؟!
ألا تسمعون في كل مناسبة في المحافل الدولية إدعاءات أن هذه الثورة أو تلك غير شرعية لأنها ثارت على سلطة منتخبة، أي سلطة مستمدة من الشرعية الشعبية؟ رغم أن الثورة قد تنتج سلطة جديدة بقوانين مختلفة وتصبح “قانونية”، لكنها تحتاج إلى انتخابات شعبية ومن ثم سن القوانين من قبل السلطة المنتخبة كي تصبح السلطة شرعية وقوانينها معتبرة شرعية من قبل المجتمع الدولي!
ومن هنا، فإن كل التشريعات والحكومات والرئاسات وسياسات المؤسسات ووظائفها المبنية على الدستور الجديد تعتبر “غير شرعية” لأن إتفاق الطائف نفسه “فاقد للشرعية”؛ وما بني على باطل فهو باطل!
أما الطامة الكبرى فهي أن مجلس النواب غير الشرعي الذي عمل على تعديلات إتفاق الطائف وصدقها، هو مجلس النواب نفسه الذي كان يضم الطقم السياسي والسلطة التي أدت سياساتها الوطنية والإقليمية والدولية إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. والأنكى أن مجلس نواب العام 1972، المسؤول المباشر بسياساته الفاشلة عن اندلاع حرب العام 1975، كان نسخة طبق الأصل عن مجلس نواب العام 1968 الذي صدق على إتفاق القاهرة في العام 1969!
أما المضحك المبكي، فهي الحقيقة المرة أن لبنان منذ القرن الثامن عشر بدأ يجتر نفس الطبقة السياسية لتحكمه. فالطبقة نفسها التي استفادت ونمت وازدهرت ونهلت وخلقت أصلاً من جراء امتيازات المحتل العثماني، هي التي انتفضت عليه مقدمة نفسها وكأنها “المحرر” من نير الاحتلال. ومن جهة أخرى، الطبقة التي استفادت ونمت وازدهرت ونهلت وخلقت أصلاً من جراء امتيازات المنتدب الفرنسي، هي التي انتفضت عليه مقدمة نفسها وكأنها “المحرر” من نير الإنتداب. والطبقة نفسها التي صدقت على إتفاق القاهرة و”استجدت” التدخل العربي والسوري، هي التي أدخلت تعديلات الطائف وكأنها المتنازلة عن حقوقها من أجل الوطن. ولأن الطائف الفاقد للشرعية الشعبية هو صناعة نفس الطبقة السياسية التي حكمتنا منذ القرن الثامن عشر، ها نحن نغوص في وحول الفساد والسمسرات والتبعيات للخارج. والآن الطبقة السياسية نفسها التي استفادت ونمت وازدهرت ونهلت وخلقت أصلاً من جراء امتيازات الوصاية السورية حيث هناك بعض الأسماء والتيارات السياسية الكبرى التي لم تكن موجودة أصلاً قبل الوصاية السورية، هي التي انتفضت عليها مقدمة نفسها وكأنها “المحرر” من نير الوصاية!
وفي الختام، كل من يتشبث باتفاق الطائف، فكأنه يعلن أن الشرعية الشعبية هامشية في النظام اللبناني، وبذلك يكون وكأنه يقول: لبنان ليس نظاماً ديمقراطياً يستمد وجوده من شرعيته الشعبيه، بل هو نظام حكم “الطبقة الواحدة” كصورة لبنانية مشوهة عن نظام حكم “الحزب الواحد”!