بعد أن حقق الطيران الروسي والجيش العربي السوري تقدماً كبيراً في قتال التنظيمات الارهابية وفي طليعتها تنظيم «داعش» وحلفائه في سوريا، خصوصاً في المنطقة الشمالية المتاخمة للحدود مع تركيا، جرى الاتفاق بين واشنطن وموسكو لتوقيع اتفاق هدنة في سوريا ورعاية وقف إطلاق النار تمهيداً لإطلاق عملية سياسية توقف آلة القتل والتدمير المتدفقة من الجسد السوري منذ خمس سنوات مريرة.
توقيت اتفاق الهدنة كان مفاجئاً بالنسبة لدول خليجية وتحديدا السعودية التي كانت تزعم في المشاركة البرية في سوريا لقتال تنظيم «داعش» الذي يهدد تمدده كل الدول المحيطة بسوريا، بل وصل تهديده غير مرة إلى أوروبا، خصوصاً فرنسا.
بالمقابل لم يشرك الاتفاق في الرأي بعض الدول مثل الجمهورية الاسلامية في ايران التي دخلت في تحالفات متعددة لقتال تنظيم «داعش»، بينما اكتفت أمريكا وروسيا الاتحادية بإبرام الاتفاق باعتبارهما الدولتين الرئيستين في الحرب على التنظيمات الإرهابية في سوريا.
ولم تغفل الدولتان دور الأمم المتحدة، لكنهما جعلتاه مهمشة وجعل مرجعيته تقتصر على تصنيف المنظمات الإرهابية، وجعلته المظلة العامة للاتفاق، وهو دور شرفي على كل حال لا يرقى إلى الدور الذي اضطلعت به المنظمة في الترتيب للحوارات في جنيف بين النظام السوري ومعارضيه، ولا بدور مجلس الأمن في تتبع بعض قضايا الازمة في سوريا.
وعليه لم يبق في الحضور الدولي في الأزمة السورية غير دور الدولتين العظميين، أمريكا وروسيا. وغير خاف أن الاتفاق أغضب اردوغان تحديداً الذي كان أول المعارضين على التدخل الروسي، خصوصاً أن التدخل استهدف المناطق المتاخمة لها، وتحالف مع الأكراد لصد نفوذ «داعش»، وهو الأمر الذي يقلق تركيا دائماً حين يصبح للأكراد قوة مخالفة للطموحات التركية.
وأكثر ما يلفت الانتباه في بنود اتفاق الهدنة هو الهيمنة الروسية الأمريكية الكاملة على حركة السلم والحرب في سوريا. والتنسيق العالي بينهما الذي يصل إلى تقصي وتتبع عمليات خرق الهدنة، ما يعني أن الدولتين جادتان في وقف الحرب، ولو مرحلياً، إذ إن لعبة خرق الهدنات هي التسلية الممتعة لكل من يحب دخول دوامة تبادل الاتهامات وتصعيد التشكيك في النوايا الإنسانية تجاه السلام. اللافت أيضاً هو الاعتراف الواضح بالجيش العربي السوري والإشارة إلى دوره في أكثر من بند من الاتفاق، والتأكيد على مشاركته في محاربة الإرهاب، في تحديد المعاقل الجغرافية للجماعات الارهابية وحصارها ومحاربتها بشكل مشترك والتنسيق وهذه الإشارة، وبلا شك، تأتي تحت تأثير الدور الروسي الحليف للشعب السوري.
لقد وضع اتفاق الهدنة الأمريكي الروسي الازمة السورية في نصابها الصحيح، فقد طالت عملية المماطلة ودخلت سوريا في مسارات عدة لا معنى لها. والاتفاق يكشف بجلاء أن هذه الازمة ازمة تدخلات قوى اميركية – خليجية – تركية كبرى لها مصالحها، فيما جاء التدخل الروسي العسكري المباشر ليرغم الجانب الاميركي على الجلوس معه والاتفاق عسكرياً معاً. فبنود الاتفاق لم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى ما كان يسمى “بالمعارضة المعتدلة” أو “الثوار” أو أي فصيل آخر يمكن التنسيق معه في الحرب السورية غير روسيا وأمريكا والجيش العربي السوري.
وأياً كانت نتائج الاتفاق الأمريكي الروسي على الهدنة في سوريا، فيكفي أنه أعاد تصويب الازمة السورية واضطراراميركا للتعامل مع النظام في سوريا وبالإيحاء في بنود الاتفاق أن بقية الأطراف المشتبكة على الأرض السورية تخضع لنفوذ القوتين العظميين، وأن على كل منهما ممارسة تأثيره ونفوذه في الضغط على حلفائه لإتمام الاتفاق وإنجاح الهدنة.
الخلاصة، أن السعودية وتركيا كلما ظنوا أنفسهم اللاعبين المخربين في الاومة السورية تأتي القوى الخارجية لتخترقهم وتعيد ترتيب الأحداث في اتجاه مصالحها، فيما يبقى طموح السوريين معقود على شعار يتداوله العرب أملاً في الحرية والتحرر وبناء دولة الديمقراطية والعدالة.