هل يعيش اللبنانيون في دائرة مغلقة كما ذهب بعض المحللين ؟ وهل بهذه الإقامة المديدة الممتدة في تلك الدائرة تجعلنا في حالة من التردد والضياع؟ وهل بهذه الحالة نكبل أنفسنا بالمزيد والمزيد من القيود التي تحد من قدرتنا على تجاوز ازمتنا الداخلية الراهنة؟ ولماذا نحن على هذه الحالة؟ وما هي الأسباب والعناصر الكفيلة بإخراجنا من شرنقة العتمة المستمرة؟
تلك الأسئلة وغيرها كانت دوماً مثار جدل تتباين فيه المقاربات والرؤى، وتتبارى حولها الأقلام والاجتهادات، وتختلط فيها التقديرات حد التفارقات الحادة وغير الحميدة.. لكننا في نهاية المطاف نظل نكررها كما لو أنها لازمة ميكانيكية عصية على الجواب.
ومن طرائف الأجوبة وأكثرها استنساباً وسهولة القول بأن هناك مؤامرة كونية ضد لبنان ، وأن هذه المؤامرة تنفذ من قبل أعدائنا الذين يتوقون إلى تعطيل الاستحقاق الرئاسي ومنع انعقاد جلسات الحكومة، وتعطيل اعمال مجلس النواب، وعدم حل ازمة النفايات و توفير المياه والكهرباء وغيرها من المشاكل التي تبدو مستعصية على الكثيرين من اصحاب الفخامة والدولة والمعالي والسعادة والمقامات .
مثل هذا الاستنتاج المتسارع يفتقر إلى كثير من عناصر الحقائق الموضوعية، فصحيح ان الصراع التاريخي بين الأمم المتشاطئة على حوض البحر الأبيض المتوسط استمر قروناً، وتسيج بالمرجعيات الدينية والعرقية، ولكن هل يمكننا الانعتاق من الاستباحة بالعويل والصراخ أم بامتلاك أسباب القوة والمنعة؟
لنأخذ مثلاً على الصراع الروسي – الأمريكي في المعادلة شرق الأوسطية لنرى بوضوح اليقين أن الكرملين والبيت الأبيض ليس بوسعهما الاكتفاء بتقديم النصائح الأخلاقية والتفرج على واقع الحال، لأنهما وكما جرت وتجري الاعراف الكونية، يريان في صراع الشرق الأوسط صراعاً بينياً بين معادلتي القوة والمنعة لديهما، وقد تابعنا خلال العقدين الماضيين حدة الخلاف بين الولايات المتحدة وروسيا، و التجليات الساخنة لذلك الخلاف في جورجيا وأوكرانيا، والاحتمالات الوافرة لتمددها في لاتفيا وليتوانيا ومولدوفيا وبولندا.. الأمر الذي يبين معنى المؤامرة في لعبة الأمم، وكيف تدار على قاعدة المصالح المختلفة.
كانت المنطقة العربية ولاتزال – من ضمنها لبنان – تمثل حزاماً نارياً على مدى التاريخ ، ولقد شاءت الأقدار أن تمثل هذه المنطقة بؤرة تكثيف مركزي لصراعات الشمال والجنوب في العالم الذي عرف خلال أكثر من ثلاثة آلاف عام، وازدادت كثافة النيران الطائفية والمذهبية بالترافق مع أديان السماء الثلاثة التي نبعت من الشرق الأوسط، ليصبح حوض البحر الأبيض المتوسط وامتداداته في أوروبا وإفريقيا وآسيا الحاضن الأكبر لحروب كانت ولاتزال تعيد إنتاج مشاكلها الدموية بطريقة جهنمية ، وكانت البلدان العربية ولا تزال تمثل رأس الحربة في معادلة الصراعات الإثنية والدينية القادمة من اوهام الكلام الطائفي والمذهبي.
مراجعة الاحداث الواقعية للتاريخ ومآسيه وحروبه الدموية والتدميرية كفيلة بإرجاعنا كلبنانيين إلى جادة الصواب… فلا يمكننا الانعتاق من الاستباحة إلا بامتلاك إمكانات هزيمتها.