يخلط صعود الجماعات التكفيرية المسلحة وعلى رأسها تنظيم “الدولة الاسلامية” (داعش) الاكثر تطرفا والأشد خطرا، الأوراق في النظام العالمي. وربما يخلق هذا الإرهاب الجديد أنماطا من التفاعلات تختلف في بعض جوانبها عما كان معتادا في العلاقات الدولية، منذ نشأة الدولة القومية أو الوطنية، لأنه يرمي إلي إقامة دولة “الخلافة” التي تمتد على رقعة واسعة من البلدان العربية.
انه تحوّل نوعي في هدف الإرهاب الذي كان محصورا، علي مدي عقود عدة، في السعي إلي تحدي السلطات المحلية ، ومحاولة زعزعة أركانها وضرب استقرارها، أو توجيه ضربات في دول غربية أو ضد مصالحها في مناطق مختلفة في العالم من وقت إلي آخر.
وإذا كان “داعش” قد توسع، في الاشهر الأخيرة من عام 2015، في تنفيذ عمليات خارج نطاق “الدولة الاسلامية”، أو السماح لأتباعه بذلك، فلم يغير هذا التطور جوهر استراتيجيته القائمة علي الإمساك بأراض معينة، وإعلان ” الخلافة” فيها. والأرجح أن هذا التوسع في العمليات “الخارجية”، خاصة منذ هجمات باريس المتقنة، تدبيرا وتخطيطا وتنفيذا، في 13 تشرين الاول 2015، ينطوي علي رسالة موجهة إلي دول اوروبية التي تشارك طائرات عدد متزايد منها في قصف مناطق تمركز “داعش” ومعاقله الأساسية في كل من سوريا والعراق.
ولم يعد مفيدا لفهم التطورات الميدانية والتفاعلات الدولية الراهنة تجنب الفرضية المتعلقة بأن الإرهاب الراهن، الذي يمثل “داعش” رأس الحربة المتقدم فيه، تحول إلي ما يشبه قوة ثالثة في النظام العالمي،بعد ان بات يملك من القدرة على التأثير ما يجعله احد القوى المركزية في التأسيس لحالة جديدة في مسارتقويض أركان النظام العالمي وقواعده كافة، وإحلال منظومة مختلفة تماما محله.
يبدو، علي هذا النحو، أن النظام العالمي يتجه إلي تفاعلات تقوم علي أساس صراع بين ثلاث مجموعات من القوى . فحتي فترة قليلة مضت، كان المشهد العام في النظام العالمي هو أن الصراع يتنامي بين معسكرين : الاول تتزعمه الولايات المتحدة الاميركية ويهدف الى الحفاظ على نظام الاحادية في العلاقات الدولية، ، والالتزام بقواعده وترتيباته، ، والثاني يضم عدد من الدول وفي طليعتها كل من روسيا والصين وغيرهم من الدول التي تسعي إلي تغيير بعض هذه القواعد والترتيبات، أو كثير منها لمصلحة التعددية القطبية.
غير أن هذا المشهد بدأ يختلف عندما تبين أن قدرات القوى عند الجماعات التكفيرية المسلحة وإمكاناتها أكبر مما كان مقدرا، الأمر الذي دفع الرئيس باراك أوباما للزعم بأن إدارته وأجهزتها الأمنية أساءت تقدير تلك القدرات، خاصة ما يمتلكه “تنظيم داعش” منها. ولذلك، كانت الذكري الثالثة عشرة للهجمات التي أطلقت الحرب الأولي على الإرهاب، فور وقوعها (ايلول 2014)، مناسبة لإعلان حرب ثانية عالمية هذه المرة، حيث سعت الولايات المتحدة إلي حشد أكبر دعم دولي لها.
ولم يمض عام علي إعلان ذلك التحالف، حتي كانت روسيا قد أرسلت عددا كبيرا من خبرائها العسكريين، وحشدت قسما كبيرا من سلاحي الجو والدفاع الجوي لديها لشن غارات في سوريا تحت الشعار نفسه “محاربة الإرهاب”. واقترن هذا التدخل العسكري الروسي ببناء ائتلاف إقليمي (إيران – العراق – سوريا مضاد فعليا للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، بعد ان اثبتت حقائق الامور عن دعم اميركي لهذه المجموعات المسلحة من تحت الطاولة.
من الصعب اليوم توقع المدى الذي يمكن أن يبلغه إدراك خطر القوة الثالثة “داعش” المدمرة الصاعدة، وما يقترن به من سياسات. ولكن المنطقي في هذه الحال هو خفض السقف الذي يمكن أن يبلغه الصراع، بين الاطراف الدولية ، وليس بالضرورة تغليب التعاون علي هذا الصراع، لأن حالة عدم الثقة المتبادلة التي ازدادت بين الولايات المتحدة وروسيا، في الفترة الأخيرة، تحول دون وضع حد لهذا الصراع، بل تنطوي علي احتمال اشتعاله في أية لحظة، رغم ترجيحنا سعي كل منهما إلي التحلي بأكبر قدر من الحذر، في ظل تنامي تهديد الإرهاب، ودخوله مرحلة نوعية جديدة.
يبدو في كل الأحوال، ان التدخل المتزايد للولايات المتحدة في المنطقة سيؤدي علي الأرجح إلي مزيد من الإرهاب، الذي يبدو أنها تتكالب علي استخدام شعار الحرب عليه لتحقيق مصالحها. فمن شأن هذا التكالب تمكين الإرهاب من أن يظهر كما لو أنه قوة “مقاومة” ضد قوة دولية عاتية طاغية، أو قوة تهدف إلي “تغيير العالم”، أو حتي إلي “تحريره”.
وهذه ليست المرة الأولي التي تؤدي فيها سياسات أمريكية، إلي خلق أجواء تؤدي إلي تنامي الإرهاب، وجميعنا يتذكر اعتراف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي كشف بأن الحرب علي العراق في آذار 2003 أسهمت في تنامي الإرهاب كما أسهمت في خلق البيئة التي أتاحت ظهور تنظيم “داعش” بعد ذلك.
وبعد أيام علي تلك المقابلة، أعاد المرشح الديمقراطي المحتمل للانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة، السيناتور بيرني ساندرز، تأكيد أن غزو العراق أسهم في تنامي الإرهاب، وظهور تنظيم “داعش”، وأن الولايات المتحدة تتحمل جزءا من المسئولية عن ذلك.
وبالعودة الى المؤتمر الذي عقد في واشنطن في بداية 2015، تحت عنوان “المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب”، وبدا في حينه كما لو أنه يعبر عن اتجاه إلي مراجعة ما، تبين أنه لم يكن أكثر من حدث هامشي انتهي، ولم يعد أحد يذكره.
كان الجديد -الذي لم يلبث أن “تبخر”- في ذلك المؤتمر هو الاهتمام بالعوامل المؤدية إلي تطرف يتحول إلي إرهاب، وليس فقط بالنتائج المترتبة علي هذه العوامل. وفي كل الأحوال، ليس ممكنا تصورامكانية القضاء على الارهاب ومراجعة سياساته واهدافه التي تواصلت علي مدى عقود بمجرد عقد مؤتمر، وبدون مراجعة جوهرية لهذه السياسات، وتقييم موضوعي لها.
فهذه المراجعة ضرورية من أجل بلورة سياسة اقليمية ودولية جديدة للحد من الإرهاب، بدلا من تعزيزه ، وصناعة المزيد منه. وبدون هذه المراجعة، قد يتعذر التوصل الى تطوير استراتيجية دولية مشتركة لا تعتمد علي القوة العسكرية وحدها، بل تكون متعددة الأبعاد، وتشمل ما طرح في مؤتمر واشنطن بشأن “تأسيس شبكة دولية ضد التطرف العنيف”، و”إحباط جهود “داعش” واخواتها لتجنيد مقاتلين أجانب ومحاربته علي مواقع التواصل الاجتماعي”، و”تبادل المعلومات حول المتطرفين”، و”بناء دوائر خاصة علي المستوي المحلي لمحاربة بذور التطرف في المجتمعات الأكثر هشاشة”، و”إطلاق مبادرات مضادة للتطرف والحض علي العنف بمشاركة الفواعل المجتمعية والمنظمات غير الحكومية”.
وهذه أفكار جيدة بالتأكيد، ولكن إدماجها في سياسة دولية جديدة أكثر فاعلية في مواجهة التطرف الإرهاب يتطلب مراجعة سياسات صندوق النقد الدولي التي تشرف عليه الادارة الاميركية ، فضلا عن التزام الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تدرك خطر انتشار الإرهاب في العالم، بدعم خطط للتنمية، وتطوير نظم التعليم في البلاد التي ينشط الإرهابيون فيها، ويسعون إلي تجنيد أعضاء جدد من أبنائها، في إطار مشروع عالمي متكامل تشرف عليه الأمم المتحدة.
بالمقابل يتوجب على البلدان العربية التي كوتها نيران الارهاب والتطرف أن تبادر سريعا إلي مراجعة السياسات التي تتبعها هي نفسها في مواجهة هذه الآفة الدموية ، لكي تقدم “نموذجا” يؤثر في سياسات القوى الدولية الكبرى. فالحكومات العربية القائمة في معظم هذه البلدان تتحدث من وقت إلي آخر عن شمولية مواجهة الإرهاب، وتعدد أدوات هذه المواجهة، ولكنها تظل معتمدة علي الأداة الأمنية والعسكرية وحدها، مثلها في ذلك مثل سياسة الادارات الاميركية المتعاقبة.
فهذه المراجعة هي السبيل الوحيد إلي وقف تمدد “الارهاب” الذي لا يتوسع ويتصاعد بفعل قوة ذاتية لا تقهر، مهما تكن قدرات بعض تنظيماته التكفيرية ، بل نتيجة قدرته علي استثمار فائض القهر، والظلم، والاستعباد علي مدي عقود، إلي جانب نجاحه في استغلال ضعف أدوات من يواجهونه، أو قصورها، أو نقصها، أو عدم ملاءمتها.
ولما كان القاسم المشترك في عملية مواجهة الإرهاب، علي المستويين المحلي والعالمي، هو الاعتماد علي الأداة الأمنية على حساب المشاريع التنموية والتطويرية والمعيشية ، فإن المشكلة تصبح منهجية في المقام الأول، أي تتعلق بمنهج هذه المواجهة بعد استبعاد معالجة العوامل المؤدية الى هذه الارهاب ، التي تكمن في البيئة الثقافية – الاجتماعية، والاقتصادية – السياسية.
يبقى ان تغيير هذه البيئة يتطلب وقتا غير قصير. ولكن المهم هو أن يبدأ هذا التغيير عبر إصلاحات اجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية تظهر آثارها بشكل تدريجي، بشكل متزايد وملموس.