تعتبر منطقة الشرق الأوسط من المناطق الأكثر أهمية في العالم، وذلك نظراً لأهميتها الإستراتيجية على مر العصور وزادها أهمية وجود المخزون النفطي الذي يشكّل الإحتياطي الأكبر على مستوى جميع القارات، هذا ما جعلها محل اهتمام الدول الكبرى لأكثر من سبب، والأهم طرق المواصلات وسبل نقل النفط والغاز، من هنا كانت الأهمية الإقتصادية والسياسية، وليس مبالغة مَن يسيطر على المنطقة فهو بذلك يسيطر على أهم مفاصل التحكم والمنافسة ومصادر الثروة والأسواق العالمية.
وفي السنوات الأخيرة تسارعت وتيرة الأحداث في المنطقة وألقت بتداعياتها الثقيلة على مجمل الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية لدول المنطقة، وتركيا واحدة من أكثر بلدان المنطقة تأثراً بالأحداث بسبب موقعها وطموحات قادتها التي وصلت الى درجة المبالغة القصوى والمغامرة، وهي اليوم ستدفع أثماناً باهظة كنتاج طبيعي لكل السياسات التي إتّبعتها خلال السنوات القليلة الماضية، من خلال تدخلها السافر في الشؤون السورية وما تقوم به من دعم للعصابات المسلحة بهدف إضعاف سوريا وفرض الهيمنة على جزء من الأرض السورية، ويعلم الجانب التركي أن حدود دوره في سوريا يبقى محصوراً في العصابات التي أرسلها وجهّزها من أجل التخريب وإشاعة حالة من عدم الإستقرار، لأن أذرعه القومية في سوريا تبقى هامشية أمام العرب والأكراد، لذلك أراد حكام تركيا مدخلاً يعتمد على جماعات “الإسلام السياسي” مثل حزب العدالة والتنمية، وحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تسويق “جماعة الإخوان المسلمين” في سوريا من خلال مساعيه لإدخالها في منظومة الحكم بكافة السبل، وبدأ في نصائحه المسمومة في بداية إندلاع الأزمة في سوريا، لكن الموقف الصلب والشجاع الذي أبدته القيادة السورية، جعلت أردوغان يبحث في أساليب أخرى واستخدام القوة من خلال الإستعانة بأدوات التخريب وفتح الحدود أمام العصابات المأجورة التي أتت من أصقاع المعمورة، لذلك سادت حالة من التناحر والتحارب في صفوف الجماعات التي تدعي أحقية تمثيل الإسلام السياسي، كما أن هناك المصالح المادية لأمراء الحرب والخراب ومن ثمّ الإنزلاق الى أجواء المنافسة والتطرف.
وهذا يذكّرنا بما حصل في مصر عندما أصبح التطرف عنوان عمل “الإخوان” هناك قبل القضاء على حكمهم، وهذا ينطبق على إخوان تركيا، ويضاف الى ذلك حالة المراوغة التي تصنّف أسلوب عمل أردوغان وجماعته التي تتسلّح بالتكوين العلماني الأتاتوركي في الدولة التركية ويضاف إليها النزعة القومية لحزب أردوغان الإسلامي الذي يحكم تركيا، لذلك يستخدم أردوغان كافة تلك العوامل حسب مقتضى الحال، وهذه المواصفات تجعل الجانب الأميركي متردداً أمام تصرفات شريكه التركي “القومية الإسلامية”.
تركيا تدفع ثمن تحالفها مع الإرهابيين
خسرت تركيا مصداقيتها في المنطقة والعالم أمام أول إمتحان لها في المنطقة عندما تآمرت على سوريا، وضاعت أحلامها في أن تكون الدولة المهيمنة في المنطقة وذات اليد الطولى، وهي التي رهنت سياستها ومواقفها وموقعها من أجل تحقيق أهداف أكبر من حجمها وإمكانياتها، وعلى الصعيد الإقتصادي خسرت أسواق سوريا والعراق ومصر ولبنان، والأهم فقدان الثقة بها، وضاعت كل الإمتيازات والحوافز وضيّعت الإستقرار والأمن والأمان على حدودها مع سوريا وذلك بعد تدخلها السافر والمشين في الأزمة السورية، وهي التي شجعت الإرهاب وتبنته سراً وعلانية من أجل تحقيق أهداف سياسية، وعملت على استحضار الماضي بكل ما فيه من جروح وهمجية وراودتها أحلامها الإمبراطورية بأنها ستصبح الأمر الناهي في المنطقة.
وتركيا التي سرقت لواء الإسكندرون بالتنسيق مع الدول الإستعمارية، تحاول استنساخ الماضي الأليم من خلال أطماعها الجديدة في الشمال السوري، وهي التي استخدمت عصاباتها لسرقة معامل حلب الشهباء في وضح النهار وأرادت بذلك القضاء على النهضة الإقتصادية التي جعلت من سوريا واحة للعطاء والأمل لبناء سوريا الحديثة.
وحكام تركيا قرأوا الأوضاع في المنطقة برؤية عثمانية جديدة، كما لو أن سوريا ولاية تابعة لها، وهي بذلك شرّعت لنفسها التدخل في شؤون بلد مجاور فتح لها الأبواب للتعاون من أجل المصلحة المشتركة وكرامة الإنسان، لكن تركيا خانت الأمانة عندما استقدمت الإرهابيين من كافة أرجاء المعمورة، وأصبحت راعية لأكثر التنظيمات الإرهابية، استخدمت من الدين الإسلامي ستاراً وهدفها السيطرة على المنطقة ووضعت نصب عينيها شعار تغيير النظام في سوريا كمدخل لتحقيق أهدافها الدنيئة، وهي مَن شرّعت عداءها لمصر وليبيا وبعض دول الخليج.
ويسألون ماذا فعلت تركيا أردوغان؟ مدّت تركيا الإرهابيين بالسلاح وبكافة أنواعه وتمّ تدريبهم تحت ذريعة دعمها لما يسمى المعارضة، واستمر ذلك طيلة السنوات الماضية ومنذ ربيع العام 2011 وحتى اللحظة الراهنة، وفي هذا المجال وصفت صحيفة “زمان” إفلاس حكام تركيا بما نشرته: “كنا سنكون العثمانيين الجدد، ولن تتحرك ورقة في الشرق الأوسط من دون إرادتنا، لكننا أفقنا من أحلامنا على صوت الطائرات الروسية، وهي تقصف في سوريا، نحن الآن في إفلاس كامل للسياسات التركية تجاه سوريا، إنتهى الحلم العثماني ولا عمق ولا استراتيجية ولا عقل ولا فراسة”، وتقول الصحيفة: “إنتهت تركيا معزولة في سياستها عن العالم كله، أما الأسد الذي عملت تركيا على إعطاء السلاح من دون حدود للمعارضة لإسقاطه، ها هو يتحول الى حالة لا يمكن تجاهلها بالنسبة للعالم، لقد اصطدمت تركيا بالحائط في الداخل والخارج”.
وفي مواجهة العدوان التركي وأدواته صمدت سوريا وقاومت الهجمة الإرهابية، وسقطت مشاريع التقسيم والتفتيت وإثارة الحروب الدينية، وسقطت لعبة التكفيريين وأفكارهم السوداء التي شوّهت مفهوم الجهاد الذي هو في الأساس دفاع عن الوطن والأمة والوقوف بوجه الغزو الإستعماري.
السياسة التركية – تراجع وانكسار
وثبت أن السياسة التركية تجاه سوريا لم تحقق أهدافها ولا تملك أي خطة بديلة بعد أن وضعت شعار “إسقاط النظام” في أولى أولوياتها وسخرت له كل الإمكانيات المادية والعسكرية والإقتصادية والسياسية، وهذا يدل على عدم واقعية تلك الأهداف والقراءة الخاطئة للأوضاع، وعلى الصعيد الداخلي التركي تراجعت حظوظ “حزب العدالة والتنمية” في نيل أغلبية برلمانية كانت ستمكّن أردوغان وطغمته الحاكمة من الإستمرار بنفس السياسات السابقة.
وفي حصاد أعماله وعدوانه، إستفاق أردوغان ومعه صاحب “العمق الإستراتيجي” ليجد أن روسيا وقد أصبحت على حدود تركيا الجنوبية وبين فكّي الكماشة الروسية وهذه سابقة لم تعهدها تركيا منذ الحقبة العثمانية الأولى، والنتيجة الأهم لهذا التطور النوعي، تمّ إصابة حكام تركيا بالصدمة، وخاصة في ظل تأكيدات روسية عبّر عنها أحد القادة “أن العملية العسكرية الروسية مستمرة وصولاً الى الحدود التركية”.
وما بين الإفلاس التركي والإقدام الروسي الفاعل في محاربة الإرهاب على الأرض السورية، تبدو الخسائر التركية باهظة التكلفة ووقعها بمثابة الكارثة التي حلّت دون سابق إنذار، ويضاف إليها الخسائر المعنوية التي مُنيت بها تركيا وهي خسائر من طبيعة استراتيجية في مجملها، وأضاعت تركيا فرصة ذهبية عندما حظيت بعروض إقتصادية روسية، مثل ما اتفق عليه بين البلدين لمد خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي عبر الأراضي التركية ومن ثمّ الى اليونان وما يعنيه ذلك من مكاسب مادية لتركيا، وجميعها ضاعت بسبب السياسة التركية المغامرة والعديمة الرؤية.
وفي المقابل استطاعت السياسة الروسية أن تلتقط أهمية اللحظة الراهنة من خلال رؤية واضحة وبعيدة المدى، ورأت في الصمود السوري في مواجهة الهجمة الإرهابية المدعومة من تركيا ومَن يقف معها كمحطة فاصلة، وبدأت روسيا العمل من خلال غرفة عمليات رباعية تضم إليها إيران وسوريا والعراق وحانت لحظة التغيير الكبير عندما بدأت الطائرات الروسية تدك مواقع الإرهابيين معلنة بداية النهاية لكل المشاريع الهدامة التي سخرت الإرهاب لتحقيق أهدافها، وكشف الدخول الروسي الفعال مدى زيف الحرب على الإرهاب تحت قيادة التحالف الأميركي الذي إنطلق قبل سنة وكانت النتيجة تقدم “داعش” وأمثالها من الجماعات الإرهابية من “جيش الفتح” وغيره المدعوم تركياً وخليجياً.
إن دخول العامل الروسي في معادلة الصراع في المنطقة وبقوة نوعية، خلق وقائع جديدة في الشرق الأوسط بأكمله وفي سوريا بشكل خاص، وشكّل ضربة قوية للدول الإقليمية التي تدعم وتوجه عمل الجماعات المسلحة تحت مسمى “معارضة”، وفي المحصلة تمّ توجيه صفعة قوية للغطرسة التركية وأربك الحسابات جميعها وقزّم الأهداف التي طالما تشدّق بها أردوغان تركيا.
قواعد اللعبة تتغيّر في المنطقة
وفي النتائج المباشرة التي تبلورت بالدخول الروسي ساحة الصراع المباشر في المنطقة، تمّ إضعاف الجماعات المدعومة من تركيا والسعودية وقطر، والملاحظ أن روسيا حاولت في البدء العمل على إقناع تلك الدول بالإنضمام الى تحالف إقليمي لمحاربة الإرهاب وتكون الدولة السورية جزءًا منه، لكنها جوبهت بالرفض، وهذا ما سمح لروسيا كشف الوجه الحقيقي لأهداف ومآرب تلك الدول وحقيقة ما تقوم به من دعم الجماعات التخريبية.
وتعتبر تركيا أكبر الخاسرين من الدخول العسكري الروسي الى المنطقة، وذلك بحكم دورها في الشمال السوري، ومن شأن التداعيات المحتملة أن تؤثر في المنطقة الى درجة ما، تكون أبعد من الحرب على “داعش” والى إعادة ترتيب أوضاع المنطقة بغير ما تشتهي تركيا والدول الأخرى التي تشاركها الهدف والوسيلة، وهذا يُفسح المجال أمام روسيا لتحقيق عدة أهداف استراتيجية بما فيها تغيير قواعد الصراع في المنطقة وليس على الحدود السورية مع تركيا فقط وإنما يتعداه ليصيب الداخل التركي ومعادلاته، وتبدو تركيا عاجزة وهي ترى قواعد اللعبة الميدانية وهي تتغيّر.
وطالما دعت تركيا لإقامة “المنطقة الآمنة” وهي التعبير المموّه عن أهدافها في اقتطاع جزء من الأراضي السورية مستغلة الحالة الراهنة ومستثمرة عدوانها السافر، هذا الهدف أصبح في مهب الريح، وكذلك فإن إقامة منطقة حظر جوي الهدف منها حماية المجموعات الإرهابية دونه سدّاً منيعاً أرسته روسيا بوجودها العسكري ولا سبيل لتحقيق الأهداف التركية.
وأظهر الجانب الروسي خرقاً شديداً حيال التفكير التركي في إقامة هذه المنطقة، وهي تأتي رداً على تصريحات رئيس المجلس الأوروبي الذي أعلن عقب لقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “أن الإتحاد الأوروبي مستعد لمناقشة كل الموضوعات مع تركيا بما فيها المنطقة العازلة”.
جاءت روسيا لترسم الحدود الجديدة للصراع في سوريا والمنطقة والعالم، وهي عازمة على هزيمة الإرهاب الذي يهدد سوريا وصولاً الى روسيا، وفي حساباتها أن الإرهاب سينتقل من سوريا الى القوقاز وعبر تركيا بالذات، لذلك جاءت روسيا لتربح الحرب على الإرهاب، وهي بذلك ترسم معادلات توازنية تتيح فرصة أخرى لمسار حل سياسي للأزمة في سوريا، واختارت روسيا لحظة لا يمكن فيها أن يتهمها أحد بأن خطوتها غير شرعية، وتفاجأت تركيا بحزم روسيا حليفة سوريا وبهذه الطريقة القوية.
لم تفلح التهديدات التركية التي روج لها أردوغان نفسه بأن روسيا ستخسر الكثير في حال خسرت علاقتها بتركيا، وأشار الى النواحي الإقتصادية لأنها هاجسه الأول، لكن أقواله ليس لها من ترجمة على أرض الواقع، لأن الإستثمارات التركية في روسيا هي المهددة وتبلغ قيمتها نحو 52 مليار دولار، وأنقرة لا مصلحة لها في توتير علاقاتها مع روسيا وخاصة في وقت تتسم فيه علاقات أردوغان بالتوتر مع الدول الأوروبية وواشنطن حول الكثير من القضايا ومنها الصراع وأولوياته وموضوع اللاجئين الى أوروبا وملف الأكراد.
وأنهى الوجود الروسي شعارات كانت تركيا ترفعها وتروج لها، وأصبح هدف إقامة منطقة عازلة ساقطاً منطقياً وعملياً، وبالنسبة لمنطقة حظر الطيران التي أرادها أردوغان تغيّرت مفاهيمها وعكس ما أراده، وبات الطيران الروسي والسوري هو المسيطر وسقطت منظومة قواعد الإشتباك السابقة، وما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من “أن التدخل الروسي جاء بناء على طلب الرئيس السوري بشار الأسد”، هذا له حساباته وهي دلالة بالغة تشير الى طبيعة المواجهة الجديدة، وبذلك ضُربت شعارات أنقرة، ولم يبقَ أمامها سوى الإستعانة بحلف شمال الأطلسي الذي يدرك أنه عاجز عن التدخل ولا يريد تطوير الوضع الى حرب عالمية ثالثة.
وتدفع تركيا ثمن مغامراتها المجنونة ورهاناتها الخاطئة بعد أن أفلت زمام المبادرة من يدها، وهي بانتظار المزيد من الوقائع الميدانية على الأرض وصولاً الى طاولة مفاوضات تحول دون تغيير الموازين لغير مصلحة روسيا وسوريا وإيران، وروسيا بذلك ترسخ معادلة الربح وجاءت لتربح الحرب على الإرهاب وداعميه، وهي حرب يستفيد منها كل الذين تأذوا من سياسات قطع الرؤوس وتدمير التراث وعثمنة المنطقة وإشاعة أجواء الخراب والتدمير.
وسلطة أردوغان هي أبرز الخاسرين من دخول العامل الروسي على خط محاربة الإرهاب ويقيد يدي تركيا في محاولتها التضييق على الأكراد في داخل تركيا وخارجها، وبنفس الوقت ما يحصل يعد مكسباً للقضية الكردية وسيمنع الضربات التركية لقواعد حزب العمال الكردستاني، وسيقطع الطريق على محاولات تركيا لإنتزاع إعتراف دولي بإدارة “منطقة عازلة” تمتد على طول حدودها مع سوريا، وتقرب الوقت الذي يجعل تركيا تدفع ثمن استخدامها ورقة القوى الإسلاموية “الجهادية”.