خلال السنوات القليلة الماضية، إتضح الكثير وأصبحت الحقيقة ساطعة دون لبس أو تأويل فيها، من صراع الإرادات إنتقلت المنطقة الى صراع المصالح على مستوى المنطقة والعالم، وحده “العالم العربي” مَن يدفع الثمن من رصيده وعلى حساب أجياله، والسؤال، لماذا هذا النزيف المستمر في قدرات الأمة؟
نعم، البعض جعل من نفسه مطية في خدمة المشاريع الهدامة التي جاءت بها الولايات المتحدة، وبعض “الدول العربية” قرارها مفقود وكراسي حكامها مربوطة على حبال مهترئة والمسألة، مسألة وقت، والصراع مفتوح.
بدأت حرب الإرادات، وبدأ موسم السقوط لكل أولئك الذين جعلوا من بلدانهم مجرد أداة لخدمة المصالح الإستعمارية في المنطقة أو مجرد وكلاء في أحسن التقديرات.
سقط “النموذج التركي” ومعه كل النظريات التي روّجت له، ومن إنتخابات حزيران 2015 البرلمانية الى إنتخابات تشرين الثاني 2015: الأولى شكّلت ضربة قوية للمشروع التركي وأزاحت الغطاء عن واقع مأزوم، من المواجهات الدموية واستهداف مكون أساسي (الأكراد) في تركيا، الى مواجهات مستمرة مع الإعلام الذي كشف المستور: تركيا دولة متعددة الهويات، وأحد مشاكلها قضية الأكراد وعلاقاتهم السياسية والثقافية بالجسم التركي، وأيضاً تحاول القيام بدور في المنطقة يخدم الأجندات الإستعمارية.
وفي تركيا يتجدد الإنقسام حول العلمانية، وظهر مدى هزالة الفكرة القائلة “إلتزام النموذج التركي بالديمقراطية”، وسقطت فكرة إقامة “حكم ديني” بعباءة “الإخوان” وهي حاولت التسويق “أن العلمانية الأكبر في المنطقة” يقبل سكانها بالخضوع لحكم حزب “العدالة والتنمية” الذي يستخدم الدين في السياسة بغية تحقيق مشاريعه والقيام بدوره في المنطقة، وهو دور هدام يخدم السياسة الأميركية وحتى لو جاء على شاكلة “إمبراطورية عثمانية”.
وبعد الإنتخابات البرلمانية الأخيرة، يحاول رجب طيب أردوغان وحزبه العودة الى الفكرة التي سقطت عملياً، من خلال إعادة ترميم “النموذج” من جديد، رغم ما أصابه من انقسامات الهوية في تركيا، وتستمر غطرسة أردوغان وأركان حكمه رغم ما أصابها، وكذلك أساليب القمع وتقييد الحريات، وفي النتيجة لم تعد القوى التي هي على شاكلة “حزب العدالة والتنمية” كما كانت في السابق، إذ أصبحت بلا مكانة بعد أن انكشفت الحقائق بظهور التيارات المتطرفة وجرائمها من “داعش” و”نصرة” و”جيش الإسلام التركي” وغيره.
فشلت تركيا في استثمار الإرهاب وهو صنيعتها في المنطقة، ومثل هذه السياسة تعرض تركيا لمخاطر حرب أهلية بدأت تلوح في الأفق، وبالمقابل يسعى أردوغان لتنصيب نفسه سلطاناً، من خلال ألاعيب “أنا أو الفوضى”.
وذهب أردوغان بعيداً في تأجيج الإستقطاب القومي التركي – الكردي من خلال زجه شريحة كبيرة من الناخبين ومتقرباً من مفاهيم حزب “الحركة القومية”، ما مكّنه من انتزاع حوالي مليوني صوت من مناحي تلك الحركة، وعمل على استمالة مرشحين ونواباً سابقين منها.
ومنذ سنوات عمل أردوغان على العامل الذي له علاقة “بالهوية” وركّز على سكان الأناضول الطامحين الى المشاركة في السلطة السياسية والاقتصاد، ويحاول “الإسلاميون” في تركيا التركيز على وجود “هوية أصيلة يمثلها أردوغان وحزبه” مقابل هويات “وافدة” تمثلها الأحزاب السياسية المنافسة كلها، وهو يسوق مقولة: “إن الحزب المحافظ الذي تشكل في العام 2000 يعبّر عن الهوية الأصيلة للشعب التركي”.
والسؤال هنا، كيف يُختصر الشعب التركي بقومياته وأعراقه وأديانه ومذاهبه ومناطقه الجغرافية المختلفة وأنماط معيشته المتباينة، في “هوية أصيلة يمثلها أردوغان وحزبه الإسلاموي اليميني” و”هويات وافدة” يمثلها باقي المنافسين على اختلاف إيديولوجياتهم؟ وأيضاً أين كانت “الهوية الأصيلة” للشعب التركي في إنتخابات حزيران 2015 الماضي؟ أم أن “الهوية الأصيلة” عباءة يسبغها الإسلاميون على الشعب التركي عندما يرضون عن نتائج الإنتخابات.
بالتأكيد، ربح أردوغان وحزبه الإنتخابات البرلمانية، لأنه لعب على كافة العوامل مجتمعة، وهذا الربح من “طبيعة زمانية” وليس قدراً محتوماً على الشعب التركي، والصراع اليوم في المنطقة وفي الداخل التركي محتدم وفي ذروته المأزومة التي تنذر بالكثير.
لحظة الحسم تقترب وهي على مسارها الصحيح، ونقول، الوقائع الماثلة تنسجم مع التطورات والمعادلات الناظمة وآليات الصراع ومحدداته وهي تفيد بأن نتائج الإنتخابات البرلمانية التركية الأخيرة ليست إلا قفزة في الهواء.