نحن اليوم في مرحلة تاريخية هامة ومليئة بالتحديات على أنواعها، إلا أن لبنان يعاني الأمرّين، فهو واقع ضمن محيط يغلي بكل ما فيه من صراعات شتى، وما تحمّله لبنان عبر تاريخه الحديث تعجز دول كبرى عن تحمّله، ومع هذا استطاع لبنان إثبات حضوره وبقوة في المنطقة، حدث هذا عندما إنتفض لبنان من أزماته التي سببها العدوان الإسرائيلي خلال العقود الماضية، يومها ظنّ العدو أنه يستطيع اختراق هذا البلد وجعله ممراً الى سائر أرجاء المنطقة.
أصبح لبنان قوياً بفعل مقاومته التي دشّنت عصراً جديداً، وضعته في دائرة الضوء والإهتمام من قبل سائر الدول الكبرى، ولبنان الذي أرسى حضوراً واهتماماً هو الذي أثبت أن قوته ليست في ضعفه بل في مقاومته وشموخه وإرادة الحياة لدى أبنائه.
والسؤال اليوم، ما موقع لبنان في الخارطة السياسية ودائرة الفعل أمام التحديات التي تواجهه في الداخل والخارج؟
في واقع الحال، يبدو لبنان وقد إنشغل في أمور مختلفة وأكثرها ضرراً وتداعيات سلبية، هو حجم المعاناة التي يتكبّدها المواطن اللبناني جراء هول المأساة المتمثلة بعشرات آلاف الأطنان من النفايات المركونة في شوارع بيروت وغيرها من المناطق، وتزداد الأمور تعقيداً عندما نرى أن سبب التقصير هذا يعود لحسابات شخصية ضيقة استغلّت الحالة الراهنة وغلبت مصالها الشخصية على حساب مصلحة الوطن والمواطن.
لبنان أصبح على شفير الهاوية على كافة الصعد الحياتية السياسية والإجتماعية والخدماتية، حيث أن المواطن لم يعد قادراً على التحمل، النفايات التي سبحت على الطرقات تحمل الأمراض الى صحة الناس، فلا وجود لأي حلحلة لملف النفايات حتى الساعة، ما يعني أن اللبنانيين في أزمة مفتوحة لن تقتصر على مشاهد أكوام النفايات ولا على الروائح بعد توقف الأمطار بل سيكون اللبنانيون على موعد جديد مع مشاهد النفايات العائمة عند هطول المطر وهنا قد لا تنفع إجراءات وزارة الأشغال وحدها لا بفتح الأقنية ولا بتنظيف المجاري طالما النفايات مكومة في الأحياء والشوارع وإن كانت بلديات تقوم بتدابير وقائية ناجحة تتجنب من خلالها الغرق في الكارثة.
إجتاحت النفايات البلاد وحاصرت الناس فانتظر اللبنانيون هبة من أهل الحوار في اجتماعهم، وانتفاضة غضب حكومية تجعل من اجتماع مجلس الوزراء شأناً استراتيجياً طارئاً، إلا أن شيئاً من هذا لم يحصل إذ أبقى المتحاورون كارثة النفايات بنداً ثانياً هامشياً ورغم غضب رئيس الحكومة إلا أنه لم يصل الى حد الإستقالة كما هدّد وتوعّد إذا لم يتم التوصل الى حل في مشكلة النفايات واشترط ضمانات من كل المكونات الحكومية بالتعاون في ملف النفايات وإلا فلا مجلس وزراء.
قضيّة النفايات قد استفحلت وملأت الشوارع في مشهد معيب وصادم لم يسبق له مثيل وتحوّلت إلى كارثة بيئية وصحية، والحقيقة أن الأمطار الغزيرة لم تجرف فقط أكوام القمامة، بل أخذت معها أشلاء الدولة المفككة والمتحللة التي مضى عليها أشهر وهي تتخبط في أزمة النفايات التي سرت عليها المعايير الطائفية والمذهبية المعتمدة من قبل الطبقة السياسية تقليدياً في التعامل مع كل شاردة وواردة في هذا النظام، حتى باتت المطامر تخضع لقاعدة 6 و6 مكرر.
أزمة النفايات وحدها مستمرة منذ أربعة أشهر بدون إيجاد الحلول لها. وهي أزمة من عشرات الأزمات التي تقف السلطة عاجزة عن حلها، في وقت مهمة الحكومة الوحيدة تقريباً إملاء فراغ الشرعية الى أن ينتخب رئيس الجمهورية، وتعطيلها يكمن في الخلاف على الملفات السياسية لا في آلية عمل مجلس الوزراء ونطاق صلاحياته المنوط بها، فلا فرص جدية لكسر الفراغ الرئاسي المستمر منذ سنتين، ولا فرص حتى لإجتماع حكومي على أكوام النفايات، فيما يستمر الرئيس تمام سلام بالتهديد بقلب الطاولة.. لكنه لا يفعل، آملاً بجلسة لمجلس الوزراء قد تغسل بعضاً من ماء وجه هذه الحكومة التي سقطت منذ زمن.
إلا أن الخرق الوحيد المأمول حالياً هو إمكانية عقد جلسة تشريعية. ولهذه الغاية يعمل الرئيس نبيه بري على تدوير الزوايا للإنطلاق بخطوات الضرورة في عقد جلسة تشريعية، وسط تحذير البنك الدولي من سحب المساعدات المقرة للبنان، ويقوم بجهود استثنائية لتمرير “تشريع الضرورة”، مستعيناً بكل أدوات الترهيب مما ينتظر لبنان من انتكاسات دولية ومحلية، إن لم يقر بعض القوانين، فيما يتحفظ حتى اليوم على استعمال أدوات الترغيب، كإدراج قانون الانتخاب أو قانون استعادة الجنسية أو غيرهما، بالرغم من أن الرئيس برّي يعرف، كما يعرف غيره، أن الجلسة لن تفيد في إحياء مؤسسة مجلس النواب، التي فقدت شرعيتها بالتمديدين ثم بعدم القدرة على الإجتماع. لكن مع ذلك، ثمة من يأمل تخفيف الإحراج عن النواب العاطلين من العمل. أضف أن أحداً لا يصدق أن ما يسمى بتشريع الضرورة سيسحب البلد من المهوار أو أنه سيعني أن الدولة ما تزال على قيد الحياة.
جمود المشهد السياسي وتعطيله في لبنان، قابله مفاجأتين كبيرتين تجلت في إطلالة الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله، في ذكرى عاشوراء، لمرّتين خلال ست عشرة ساعة، بصورةٍ شخصيةٍ، متحدّياً “إسرائيل” إذ وقف أمامها لساعتين رغم المحاذير والمخاطر، كما تحدّى التكفيريين، الذين تحدتهم المسيرات الحاشدة والجموع المكتظة، غير عابئة بسيارات مفخخة ولا بهجمات انتحارية قاربت الصفر منذ السيطرة على القلمون والزبداني، وموجّهاً رسائل بالجملة إلى الداخل والخارج، وأبرزها أن المقاومة المنخرطة في حرب ثلاثية الأبعاد – مع “إسرائيل” في الجنوب وضد الإرهاب في الشرق وفي وجه التكفير في سوريا – لن تتعب ولن تخرج منها إلا منتصرة، وأن جمهورها وأهلها لن يتخليا عنها.
والتوصيف الأمثل والأوضح للحالة الراهنة في لبنان هو ما سلّط عليه الضوء الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله، عندما نعى الإنتخابات الرئاسية، والحكومة الميتة سريرياً من دون إعلان وفاتها رسمياً. هذه الحكومة التي ظنت أنها بمنأى عن تداعيات الفراغ الرئاسي أصابها شلل تام، والمجلس النيابي شلل نصفي. وحده الحوار بقي الملاذ، والسيد لم يذكر غيره بالخير، وهو توأم الإستقرار وما تبقى من استمرار لعمل المؤسسات، فجاء النعي على الشكل الآتي، لا تنتظروا حواراً ايرانياً – سعودياً، الأمور تزداد تعقيداً في المنطقة، لا تنتظروا مبادرة أميركية أو غربية، لبنان خارج اهتمامات الدول، لبنان اليوم متروك لزعمائه ولأحزابه.
وبعد كل ما تقدم هل ينجو لبنان من يد الطبقة الفاسدة، التي في الاستراتيجيا قسم منها يربط مصير لبنان بحروب المنطقة، وفي السياسة يربط قسم منها مصيره بمصالحه الشخصية، وقسم آخر يربط مصيره بمصالحه التجارية، والكارثة البيئية تتقاطع مع الأضلع للحالة السلبية القاتلة التي تنتظر فرصتها الأكبر على ضوء رؤيتها للتداعيات الراهنة في المنطقة وما قد تسفر عنه، وفي هذا المجال نقول، لقد آن الأوان كي يستفيق البعض من أحلامه وغطرسته والإلتفات الى الوطن الذي هو الأغلى والأثمن والأبقى من كل امتيازاتهم، قبل أن تلفظهم الأحداث والتحولات الجارية، وعندها لن ينفع السير في طريق إضاعته رؤى لا تعرف إلا مصالحها الضيقة.