بالأمس القريب أتحفتنا فرنسا بأكذوبة القضاء النزيه والغرب الإنساني بسجن الأسير اللبناني جورج العبدالله بقرار من السلطة السياسية التنفيذية رغم أنف السلطة القضائية، واليوم أتحفتنا السلطات السياسية البلغارية باتهام حزب الله بعملية “إرهابية” قبل انتهاء التحقيقات القضائية… وهنيئاً للإنسانية عدالة من يدّعي ريادتها!!
وقامت قيامة المعارضة البلغارية متهمة السلطة بالانصياع للضغوط الأميركية والإسرائيلية، معتبرة أن هذا الانصياع هو خرق فاضح للسيادة البلغارية. وهنا استغربت متسائلاً: غريب أمر هذه السيادة التي يتكلمون عنها. فذهبت لصديق لي عاش لعقود في بلغاريا وسألته: هل المعارضة البلغارية تتألف من أكثرية عرقية فارسية؟ فضحك قائلاً: لا ناقة لهم بالعرق الفارسي ولا جمل. إذن فهم أكثرية شيعية جعفرية إثني عشرية. وهنا قهقه قائلاً: بل هم مسيحيون قلباً وقالباً. فتساءلت، هل هم “عونيون”؟ وكاد صديقي أن يختنق من الضحك وأجابني أنهم لا يعرفون من هو الجنرال عون. إذن فهم بعثيون سوريون، وهنا انقلب صديقي إلى الخلف مغشياً عليه وقال: لا دخل لهم لا بالبعث ولا بسوريا ولا بالعرب. غريب، أيدعمون قوى الثامن من آذار بوجه قوى الرابع عشر من آذار؟ معظمهم لا يعرفون أين يقع لبنان في الخارطة، أجابني. لا شك أنهم من داعمي مقاومة الصهيونية العالمية أو معادين للسامية، استنتجت. فأجابني بحزم أن لا الصهيونية ولا السامية ولا الحامية تعنيهم بشيء، وإذا كان هناك من أيديولوجية يكنون لها العداء فهي النازية.
وهنا انتفضت قائلاً: إذا كانت المعارضة البلغارية لا تدعم المقاومة في لبنان وليست ممن يعملون على انتشار “الهلال الشيعي” الذي فلقونا به العرب ولا تعنيها الممانعة ولا تفقه الخطر الصهيوني ولا تعنيها القوى السياسية اللبنانية، فلماذا هذا الموقف المتشدّد ضد مواقف سلطات بلادها الرسمية؟ وأجابني صديقي بهدوء عميق: لأن الاتهام لم يأتي كنتيجة للتحقيقات القضائية، بل نزولاً لرغبات غير بلغارية مما تعدّه المعارضة مساً بالسيادة البلغارية وإهانة للكرامة الوطنية وإرهاباً معنوياً بوجه استقلالية القضاء البلغاري. بغض النظر عن مواقف المعارضة السياسية من تحالفات بلادها الدولية ومواقفها السياسية الخارجية التي قد تكون مطابقة لتحالفات السلطة الحاكمة، ولكن التدخل في التحقيقات القضائية بإسم التحالف السياسي هو تدخل سافر في الشؤون الداخلية البلغارية التي تعتبرتها المعارضة خط أحمر.
وتعالت أصوات المعارضة اللبنانية تشكو من المهالك التي يدخلنا بها حزب الله من خلال عملياته “الإرهابية” ضد “المواطنين الإسرائليين”، كما علت أصواتهم ضد طائرة أيوب التي اعتبروها تحدٍ من حزب الله للقرار الأممي 1701، ذلك بالإضافة لمقاطعة الحكومة حيث اجتمع دولة الرئيس فؤاد السنيورة بمعظم سفراء دول العالم لدى لبنان ليبرر لهم مقاطعة المعارضة للحكومة. ناهيك عن استدعاء لجان تحقيق أجنبية لتترأس عناصر التحقيق اللبنانية والعمل على تأسيس محكمة يترأسها ويديرها الغرب بأموال دافعي الضرائب اللبنانية. وهل ننسى كيف انتقدت قوى الرابع عشر من آذار تدخل حزب الله في ما دعوه آنذاك بالشؤون الداخلية المصرية عند اتهام عناصر من الحزب بتهريب السلاح للمقاومة الإسلامية الفلسطينية من الأراضي المصرية؛ ذاك السلاح الذي استخدمته غزة مؤخراً في لجم الطغيان الإسرائيلي حيث شهدنا المعارضة اللبنانية تزحف بقياداتها إلى غزة لتهنئتهم بانتصارهم على العدو الصهيوني. والآن يتنادى جهابذة التحليل من المعارضة اللبنانية باللطم واستقراء تداعيات اتهام حزب الله بالعملية البلغارية وماذا سيكون الرد الإسرائيلي وكيف سيواجه لبنان أي عقوبات اقتصادية من جراء وجود حزب الله في السلطة التنفيذية. ولكنني لم أسمع هذه الاعتراضات وهذا الحرص على لبنان في الخروقات اليومية للطائرات الحربية الإسرائيلية للأجواء اللبنانية.
وبسذاجة المواطن الغيور على بلاده، ظننت أن جميع القوى اللبنانية ستبني على مواقف المعارضة البلغارية لتبرئة أي جهة لبنانية من الاتهام؛ بنفس السذاجة التي جعلتني أظن أن الإحساس الوطني سيغضب جميع القوى اللبنانية من جراء سجن المواطن اللبناني جورج العبدالله بقرار سياسي خلافاً لحكم القضاء، علماً أن جورج العبدالله ليس شيعياً ولا فارسياً ولا بعثياً ولا علوياً ولا ناقة له ولا جمل لا بالثامن ولا بالرابع عشر من آذار. ولكنها، وللأسف، وكما ذكرت، سذاجة مني وحماقة وبلاهة بأن أؤمن بأن هناك قوى معارضة لبنانية… فقط لبنانية. فالبرغم من مواقف المعارضة البلغارية والبرغم من تردّد عدد من دول الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف ضد حزب الله شكّاً بمصداقية الاتهام، وبالرغم من استخدام تعبير “الجناح العسكري” لفصل المواقف السياسية من الحزب اللبناني “المنتخب” عن العمليات العسكرية، ورغم أن العملية كانت ضد إسرائيليين؛ لا تنفك المعارضة اللبنانية من التهجم على حزب الله وتحليل ردود الفعل الإسرائيلية وكأنها تبرر لإسرائيل ما قد تفعله بلبنان انتقاماً لقتلاها في بلغاريا. وقد غاب عن بالهم “الإنساني الحنون” أن هؤلاء “الضحايا” لن يتمكنوا من الرجوع إلى منازلهم التي انتزعوها من الشعب الفلسطيني، ولن يعودوا إلى كنف عائلاتهم التي أسّسوها على حساب تشريد العائلات الفلسطينية، ولن يعودوا إلى وطنهم الذي بنوه على جثث بنيه… “الله لا يردهم والله يغملقهم” رغم أنف “المعارضة اللبنانية” وأميركا وأوروبا والعالم كله. إنها أعراضنا وأرضنا وأموالنا ودماؤنا التي اغتصبوها وأسالوها ولا يزالون وأنتم تتباكون على العلاقات الثنائية والمصرفية.
إن من يدعم إسرائيل ومن يعترف بحقها في الوجود من عرب وغرب هم أعداء لبنان من أي جنسية كانوا ولأي دين انتموا… “ونقطة على السطر”. فهنيئاً للمعارضة البلغارية سيادتها وبئس لبنان معارضة تعارض سيادته وسيادة شعبه.
**
**