ساهمت الولايات المتحدة الأميركية كطرف أساسي في نظام دولي معادٍ في الإجمال، في سلب العرب نفطهم بأرخص الأثمان لسنوات طوال، وفي اللعب بمصائرهم، وأحياناً بفرض حكام لا يحظون بثقة الشعب، وبالدفاع عن آخرين فقدوا تلك الثقة، واعتبرت واشنطن المنطقة مزرعة لعسكرييها ولشركاتها، نهبت الموارد وتهدد بالتدخل، ومنذ غزوها العراق عام 2003، ما انفكت في استخدام سياسة هدامة حيال مصالح العرب، عملت على إضعاف روابطهم الإجتماعية وأشاعت التفرقة وعملت على إعاقة عملية التنمية بين الأقطار العربية، من خلال محاربتها كل الوسائل الممكنة لتحقيق الوحدة العربية، ودقّت الأسافين بين الدول العربية، وأثارت النعرات الطائفية والمذهبية لزيادة حدة الإنقسام بين العرب بما يساهم في إنقسامهم وحروبهم.
واحتضنت الولايات المتحدة المشروع الصهيوني في حلته الإسرائيلية المعادية، كما لم تفعل أي دولة أخرى، وجعلت من عدو العرب الأساسي الكيان الصهيوني مجتمعاً مدججاً بالسلاح.
وتقف أميركا ضد القومية العربية وضد جميع مشروعات العمل العربي المشترك الهادف الى تنمية حقيقية للموارد، وهي أخطر على الأنظمة العربية الصديقة لها، منها على الأنظمة العربية التي تعلن صدّها وإفشال مشاريعها في المنطقة.
تراجع دور مجلس التعاون الخليجي!؟
وضعت أميركا حدوداً لتوازن القوى الإقليمي الراهن في منطقة الشرق الأوسط وقطعت الطريق على محاولات تعديله جذرياً، وفي سياسة خطوطها تشير بوضوح بأن المصلحة الأميركية أولاً، وأشعلت الحروب العسكرية وغذّت الحروب الأهلية في المنطقة وخاصة تلك التي يمكن حلّها فقط بالوسائل السياسية والسلمية واحترام سيادة كل الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهذا يعني أن التعامل مع القضايا الإقليمية يتمّ بالمفرّق وليس كرزمة شاملة، وهذا يمثّل ترجمة واضحة لتثبيت توازن قوى إقليمي تستفيد منه القوى الفاعلة على الأرض وفي مضمون هذه السياسة اعتراف ضمني بدور إيران الإقليمي وخاصة في منطقة الخليج ورسالة لدول الخليج، التي تسعى للإستعانة بالقوة الأميركية من أجل تغيير التوازنات القائمة، مفادها أن أميركا لا تدافع عن أعوانها في المنطقة ولها حساباتها الخاصة.
ويظهر بوضوح بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما يريد تطوير علاقات بلاده مع الطرفين العربي والإيراني في آنٍ معاً، ما يظهر اختلافاً واقعياً عن السياسة الأميركية المعتمدة شرق أوسطياً منذ أكثر من ثلاثة عقود، ويرى مراقبون أن الرئيس باراك أوباما أعطى تطميناته للدول الخليجية بحمايتها عند تعرضها لعدوان خارجي فقط، أي أنه سيدافع عن مصالحه في المنطقة، وفي نفس الوقت أفسح المجال لصعود الأدوار الإيرانية في المنطقة وفق ضوابط، وهذا إنقلاب واضح على السياسات الأميركية المعتمدة سابقاً.
أما مهمة ضبط الصراعات المحلية فهي متروكة الى الأطراف الإقليمية للتعامل معها وفقاً للضوابط الأميركية والإطار المرسوم لتوازن القوى، وأما حدود التدخل العسكري الأميركي لن تتعدّى “التدخل لحماية المصالح الأميركية المباشرة في حال أي تهديد حقيقي لمنابع النفط وطرقه ولمواجهة الإرهاب في حدود الإلتزامات المعلنة”، وبالتأكيد فإن الثوابت في السياسة الأميركية في منطقتنا لم ولن تتغيّر عندما يتعلّق الأمر بالكيان الصهيوني وأمنه، هذه أصبحت من البديهيات وهي تؤكّد مدى الإرتباط العضوي لهذا الكيان بالمركز الإستعماري العالمي.
ومنذ ما بعد الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، تغيّر الكثير في السياسة الأميركية، وهي لم تعد قادرة على دفع الأثمان، أرهقتها أزماتها وحروبها في أماكن متعددة في العالم، وسعت للإعتماد على أدواتها الرسمية إقليمياً عبر أدوار محددة بما يخدم الإستراتيجية الأميركية وتركت العنان لحليفها الكيان الصهيوني للقيام بأدوار محددة في المنطقة من خلال العدوان المباشر والتهديد، وفي مسعى واضح لتسويق نموذجها المروّج عملياً الشرق الأوسط الجديد، لكن حساباتها النظرية اصطدمت بواقع جديد، رُسمت معالمه في الميدان من خلال الصمود والمقاومة في سوريا ولبنان ضمن محور المقاومة الممتد الى إيران.
هذه المعادلة الصعبة وقفت حائلاً وسدّاً منيعاً أمام الطموحات الأميركية للهيمنة على المنطقة بأسرها.
والجانب الأميركي لا يهمه كثيراً أن تتغيّر الواجهات الرسمية التابعة له في المنطقة، وعندما انتهت صلاحية نظام “مبارك” بعد أن استنفذ أدواره في المنطقة، كانت الخطط الأميركية جاهزة، ومنذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، تركيا كانت جاهزة تنتظر الدور الموكل إليها وتدفعها توجهاتها العثمانية الجديدة للقيام بدور ما وتحت المظلة الأميركية أو خارجها، وهي كانت تطمح الى ما هو أبعد ما أراده سيدها الأميركي.
ويوماً بعد يوم يتأكّد بأن الخطوة الأولى على طريق الشرق الأوسط الجديد الأميركي قد بدأت فعلياً منذ أن تسلّم “الإخوان” مقاليد الحكم في مصر وبمباركة أميركية وفي لعبة أدوار جديدة بما يخدم المصالح الأميركية في الهيمنة على المنطقة ونهب خيراتها وحماية الكيان الصهيوني، وهذه الخطوة سقطت وبشكل مدوٍّ بسبب صمود سوريا والمقاومة في لبنان والعراق وفلسطين وبدعم إيراني قوي وواضح ومستمر، هذا ما سمح لمصر ولشعبها بالتحرّك السريع وإسقاط المشروع “الإخواني” المعد للمنطقة، بما يتوافق مع السياسة الأميركية الهادفة لإعطاء دور لما يسمى بدعاة “الإسلام السياسي”، وأمام فشل هؤلاء تميّزت السياسة الأميركية بالمرونة واللحظية.
الولايات المتحدة والإستثمار في الأزمات
واستخدمت واشنطن الملف النووي الإيراني “كفزاعة” لإخافة دول الجوار في الخليج من هذا الخطر المفترض، هذا ما سمح لها في تثبيت أقدامها في القواعد الأميركية وتعزيز حضورها القريب من آبار النفط وطرق النقل والمواقع الإستراتيجية الهامة في المنطقة، وخلق لها فرصاً كبيرة لبيع السلاح، إضافة لتغيير إتجاه البوصلة ومجرى الصراع في المنطقة.
وبعد أن لاح لواشنطن في الأفق بأن مشروعها المسمى “الشرق الأوسط الجديد” فشل في خطواته الأولى، لجأت الى عملية مبرمجة لخلط الأوراق واستفادت من الحالة الراهنة في المنطقة الى أبعد الحدود، وعملت على إغراق المنطقة في صراعات داخلية بين الطوائف والمذاهب والإثنيات وهدفها إضعاف الجميع ليسهل عليها التحكم بالمنطقة.
لكن وجود محور المقاومة بكل ما يمثّله من دور فاعل في معادلة المنطقة، جعل واشنطن تعتمد على سياسة مفادها موازنة القدرات العسكرية الإيرانية، بنشر المزيد من القدرات العسكرية الأميركية وتعزيز نفوذها مع الموازنة ما بين الفوائد والتكاليف المقابلة، هذا ما سمح لها بإنعاش اقتصادها وإنعاش صناعاتها العسكرية من خلال حصولها على إيرادات مالية ضخمة ومستغلة بذلك “فزاعة” الخطر المتعاظم في المنطقة ضمن بيئة محددة ولفترة طويلة قادمة وهي الخيار الأنسب والأفضل والأكثر جدوى لمصالحها في المنطقة.
وأميركا بذلك استخدمت ما يسمى “بالخطر النووي الإيراني” كغطاء لتنفيذ أحد أهم المخططات الأميركية الساعية للسيطرة على المنطقة كمدخل لفرض سيطرتها العالمية.
والإستراتيجية الأميركية، تسعى لإقامة تحالفات إقليمية وأخرى دولية يتكاملان معاً لخدمة أهدافها القريبة والبعيدة.
وللإجابة عن التساؤلات المتعلقة بالحرب على الإرهاب وهل إنخرطت الولايات المتحدة جديّاً في هذه الحرب وما حقيقة ما ترمي إليه؟ يكفي أن نعود الى الماضي القريب، والحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على أفغانستان بحجة محاربة الإرهاب هناك، وكانت الحرب بحد ذاتها عبارة عن الوجه الآخر للصراع لتأكيد هيمنتها الآحادية على العالم بأسره، وقفت مع الإرهاب لمحاربة الإتحاد السوفياتي وبعده محاربة روسيا وحاربت الإرهاب عندما كان يهدد مصالحها المباشرة، لكنها جعلت منه مجرد ذريعة لفرض هيمنتها وسيطرتها.
من هنا فالحرب على الإرهاب هو مجرد خطوات تكتيكية في الإستراتيجية الأميركية لأن الإرهاب هو صنيعتها ويتم تحريكه من خلال تأمين البيئة المناسبة لإنتشاره، ومثال ذلك عندما تقدمت قوات الإرهاب “داعش” بإتجاه أربيل مسافة حوالي 30 كلم، تحركت القوات الأميركية بشكل سريع وليس خوفاً على الأكراد من إرهاب “داعش” وإنما حماية للإستثمارات الأميركية في حقول نفط كردستان.
وعلى ضوء الأزمة السياسية في سوريا تؤكد الوقائع أن لأميركا دور غير مباشر في دعم التطرف، وفي صناعة داعش، والدليل على ذلك أنه في عام 2012 تم فتح معسكرات لتدريب المعارضين السوريين في الأردن من قبل القوات الأميركية وتم تدريبهم تدريباً خاصاً مهنياً متطوراً على أيدي خبراء أميركان، وتم تجهيزهم بأحدث الأسلحة وأشارت تقارير إعلامية أن غالبية هؤلاء الذين تمّ تدريبهم قد انضموا الى داعش لاحقاً.
وبالنسبه لمصادر تمويل “داعش” يلاحظ على المواقف الأميركية منذ أن سيطرت “داعش” على مدينة الرقة الى اليوم، لم تتخذ الولايات المتحدة الأميركية أي إجراء قانوني سواء ضد تحويلات وأرصدة أموال “داعش” أو تجفيف مصادر تمويلها، والسبب في عدم إتخاذ إجراء للحد من وصول الأموال الى “داعش” يعود الى أن هذه الأموال لا تمس المصالح الأميركية، وإنما تخدم مصالحها في منطقة الشرق الأوسط لاسيما وأن أميركا كانت مع التغيير العسكري في سوريا لهذا كانت تغض النظر عن تحويلات الأموال للقوى المتطرفة المسلحة ومنها “داعش” رغم أن هذه الأموال تستخدم لتجنيد متطوعيين من أوروبا مع “داعش”.
“داعش” تقاتل بأسلحة أميركية متطورة حصلت عليها عبر تركيا، وحصلت على الأسلحة الأميركية من الجيش العراقي عند سيطرتها على مدينة الموصل ومناطق أخرى من العراق. وتذكر بعض التقارير أن “داعش” تمتلك تكنولوجيا أميركية للإتصالات والتشويش على إتصالات جيوش تحاربها كالجيش العراقي. كما أن أميركا لم تفِ بوعودها مع العراق حيث لم تسلم للحكومة العراقية طائرات F16 حسب العقد المبرم مع الحكومة.
لقد خلقت حروب أميركا في العراق وأفغانستان ويوغسلافيا وليبيا والصومال أزمات جديدة وحالة من عدم الإستقرار، إضافة الى أزمات الشرق الأوسط المستعصية التي لأميركا طرف فيها مثل دعم الإحتلال الإسرائيلي وعدم إيجاد حل للقضية الفلسطينية وإعطاء الحقوق للشعب الفلسطيني وخاصة حقه بالعودة وفي إقامة دولته الوطنية، وهناك أيضاً الملف النووي الايراني والأزمة في سوريا والعراق ومصر وتونس….. الخ أنتجت هذه المواقف جميعها عالماً أقل استقراراً، وسيطر وتوسع فيه الإرهابيون على مناطق واسعة من الشرق الأوسط وتمتد الى شمال أفريقيا وصولاً الى الباكستان وحدود روسيا والصين.
ومع تمدد “داعش” الآن كل المعطيات تؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية تأخذ بعين الإعتبار موقف تركيا المهادن لـ “داعش”، وتدرك تماماً أن إرهابيي “داعش” لا يزالون يعبرون من الحدود التركية وأن هنالك تنسيق بين “داعش” والحكومة التركية، وأن تركيا مستفادة من “داعش”، ليس فقط لهدف إسقاط سوريا واستمرار تمددها في العراق، وإنما لتقوية مركزها ونفوذها الإقليمي تحسباً لأي تغيير في خارطة الشرق الأوسط، ولإضعاف أكراد سوريا والعراق، وهذا يساعدها على إضعاف نفوذ حزب الشعوب الديمقراطية الذي أصبح رقماً هاماً في المعادلة الداخلية التركية بعد الإنتخابات الأخيرة..
من هنا أكدت التجربة التاريخية لمواجهة الإرهاب أن الاستراتيجيات الأميركية لا تقضي على الإرهاب وأن الاستراتيجية الحالية هي عقيمة في محاربة الإرهاب أيضاً وفيها أجندات وحسابات أميركية لخدمة مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى.
نقول: لا فرق بين إدارة أميركية ديمقراطية وأخرى جمهورية، وكلاهما خطر على عالمنا العربي وتهدّد أمنه واستقراره وتنهب موارده وتحمي الكيان الصهيوني قاعدتها المتقدمة في المنطقة.