إنه الزمن الذهبي الذي وُلد من اتفاق الدول العظمى مع الجمهورية الإسلامية في إيران في العاصمة النمساوية فيينا، حيث تمكّنت الدبلوماسية الإيرانية من انتزاع ثمار الإتفاق النووي ومن رفع العقوبات التي أثقلت كاهل الشعب الإيراني الذي بقي صامداً، وجعلت الحاقدين من الحكام العرب الذين يتفرجون على مآسي شعوبهم بما فيه احتلال فلسطين لعلّ يراجع هؤلاء ثوابتهم وحساباتهم أو يبدلون جلدهم على إثر هذا الإتفاق التاريخي.
وإذا كان العالم قد إعترف بإيران كقوة نووية إقليمية، وانتهت سياسة الإحتواء تجاهها، وأصبح برنامجها النووي الذي كان حقاً لها، برنامجاً شرعياً بعد فشل أميركا والغرب في تفكيكه، والإعلان الواضح بحقها بالتخصيب، بنسبة 5 %، وهذه النسبة كافية جداً للإبقاء على البرنامج النووي مما أكسب الإيرانيين إعترافاً دولياً بحقهم بتخصيب اليورانيوم.
وبصرف النظر عن ردود الفعل لبعض الأصوات العربية الإنتهازية لإتفاق فيينا والتي لا يمكن وصفها إلا بالكيديّة البعيدة كل البعد عن النظرة العقلانية لأنها لا تستند الى رؤية واضحة مبنية على فهم دقيق لأحداث التاريخ أو إدراك عميق لحقيقة السياسة الأميركية بين الثابت والمتحول، يمكن اختصار المشهد الجديد الذي ساد العالم إثر توقيع الإتفاق النووي بأنه زمن فلسطين الحرة والمتحررة، وبداية تحوّل حقيقي نحو عالم متعدد الأقطاب على حساب الآحادية الأميركية، ليصبح بذلك الحلم حقيقة عند أولئك المؤمنين بمبادئ وتعاليم روح الله الموسوي الخميني (ق.س) الذي أحدث منعطفاً مصيرياً في تاريخ العرب والمسلمين واستطاع أن يؤسس لدولة على أرض الواقع وأدرك منذ اللحظة الأولى أنها ستنبت في المستقبل عزاً وفخراً وكرامة لجميع الأحرار والمستضعفين في العالم.
لقد كشف الإتفاق النووي بأن قوة أميركا الحقيقية تكمن في ضعف العرب أساساً في انقسامهم وتخلفهم عن استخدام مواردهم، وخصوصاً تلك الأنظمة العربية الرجعية العاجزة والمستسلمة التي لا تقاوم، ومرد ذلك بالطبع الى الفجوة العميقة بين الشعب من جهة والحكام من جهة أخرى وعدم وجود مشروع حضاري متقدم يقوم على العلم والمعرفة والتطور. هذه هي معضلة هؤلاء العرب الحقيقية التي حوّلت تخلفهم الى قدر محتوم وأدامت تبعيتهم واستعبادهم وجعلت مذلتهم مذلة كبيرة فأصبحوا مجرد حكام بلا وزن ولا قيمة لهم.
وعليه لا يمكن أن نضع قوة إيران وقدراتها إلا في إطارها الصحيح لحماية وخدمة مشروع محاربة الظلم والإستكبار العالمي، ودعم القضايا العربية العادلة وفي طليعتها القضية الفلسطينية والوقوف الى جانب المقاومة في مقارعة كل أشكال الإستعمار والإحتلال والتطرف والإرهاب.
من هنا لابد من نظرة عربية أعمق وأكثر مصداقية ومسؤولة إزاء الإتفاق النووي، فما كان يعتبر حلماً عند الذين عملوا لتحقيقه في الماضي هو اليوم حاضر كل العرب والمسلمين الأحرار في زمن لا مكان فيه إلا للأقوياء، بعد أن تمكنت إيران في استعادة “شرعية” دولية ومكانة اقتصادية جعلتها محطة استقطاب للدول الأوروبية التي تعاني ركوداً اقتصادياً كبيراً وصل الى حد الإفلاس كما في التجربة اليونانية، خاصة وأن الغرب يعي تماماً ما تحتفظ به إيران من مخزونات هائلة من النفط والغاز تحتل المرتبة الرابعة في العالم من احتياط النفط والمرتبة الثانية من احتياط الغاز وهي عوامل تزيد من مكانة العرب والمسلمين الإستراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وإذا كان هذا الإتفاق التاريخي لا يقتصر فقط على النووي الإيراني بل يتعداه الى فتح صفحة جديدة بالعلاقات الدولية ورسم آفاق جديدة على حد قول الرئيس الإيراني حسن روحاني، فهناك مَن ينتظر الترجمة الفعلية لإتفاق مجموعة 5+1 مع إيران على أرض الواقع وانعكساتها على إيجاد الحلول السياسية لكل الملفات الساخنة على الجغرافيا الممتدة من سوريا الى اليمن ولبنان وغيرها من البلدان العربية التي تحوّلت الى مختبر لمشاريع التفتيت القادمة وسط رياح “داعشية”، دون أن ننسى أيضاً حالة المراهقة السياسية التي يعيشها “أمراء الزيت” برهانهم الميؤوس منه على تخريب البلدان العربية وتأييدهم على الدوام لقتال الجماعات التكفيرية المسلحة في سوريا ومدهم بالمال لقتل الشعب السوري متناسين بأن الخطر الحقيقي القائم في كياناتهم ليس مصدره إيران كما يزعمون وإنما بسبب الفساد والبطالة والكبت والتسلط وغياب التنمية وغيرها من المشاكل الأخرى التي تتخبط بها مجتمعاتهم المهترئة وربما يكون ذلك السبب الذي دفع بالرئيس الأميركي باراك أوباما الى تغيير نظرة بلاده الكلاسيكية تجاه الدول الخليجية وتحديداً السعودية بعد أن أصبحت مصدراً للإزعاج والقلق بالنسبة للدول الغربية بفعل الإرهاب الوهابي المتنامي والمتدفق منها وخروجه من تحكم وسيطرة العائلة الحاكمة في المملكة.
كل ذلك يعني أن محادثات الغرف المغلقة في فيينا قد تجاوزت الإتفاق النووي الى تقاطعات المصالح في دول المشرق العربي بين طهران وواشنطن وربما يكون الإتفاق النووي هو المدخل لبداية التصدي المشترك للجماعات التكفيرية المسلحة وأخطرها “داعش” المعزز مع السلاح والعتاد والأموال المتدفقة إليه من دول خليجية بشعارات دموية وإجرامية لا تمت الى الإسلام بصلة.
إن العرب عموماً وعرب المشرق العربي خصوصاً مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى لمدّ يد التعاون مع إيران والخروج من حالة الفوضى والإنقسام الذي أخذهم الى الإقتتال المذهبي والطائفي، وقد يدفعهم الى المزيد منه طالما افتقدوا وحدتهم الوطنية وأضاعوا بوصلة العروبة فضلاً عن تباعد دولهم الى حد القطيعة والإقتتال.
وبانتظار صحوة عربية قد تأخذنا سنوات من الزمن أو أكثر ماذا عن لبنان، الغارق بالنفايات التي اجتاحت مدنه ومناطقه وشوارعه، بعد أن تبدّلت النظرة الأميركية والغربية لإيران إثر الإتفاق النووي وتهافت الدول لحجز مقعد اقتصادي على الطبق الإيراني، أليس من المنطقي على لبنان الذي تربطه علاقات وثيقة ومميزة مع إيران الإستفادة من “خيرات” الإتفاق النووي على قاعدة أن “الأقربين أولى بالمعروف”؟
وما هو مصير الكيدية السياسية والذرائع الواهية التي وضعتها بعض القوى الداخلية في المرحلة الماضية والتي اعترضت من خلالها على المساعدة الإيرانية المشكورة بتقديم هبة عسكرية للجيش اللبناني الذي يواجه الإرهاب التكفيري على أرضه فهل مازال لها مبرراً في زمن إيران النووي؟
وبعيداً عن ازدحام الأسئلة في أفق الإتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1 وكثير منها عربية وبينها ما يتصل بتطورات الأوضاع الميدانية في كل من سوريا والعراق واليمن ولبنان بالإضافة الى مستقبل الأنظمة الخليجية وأشخاص الحكام فيها، يبقى أن هذه هي إيران التي نعرفها ونعتز بالإنتماء لمحورها المقاوم والدفاع عن قيم أحرار العالم التي هي في الأصل قيم إنسانية وعربية وإسلامية عظيمة، وستظل أميركا بالنسبة لها الداعم الأكبر لـ “إسرائيل” التي لن تتخلى عن جشعها واستكبارها وغطرستها وإجرامها بحق العرب والمسلمين.
لقد أعطت الجمهورية الإسلامية في إيران النموذج الساطع للدول التي تتطلع للعيش حرة سيدة كريمة كما أراد الله لها أن تكون بين الأمم المتحضرة والشعوب المتقدمة، فهنيئاً للشعب الإيراني وقيادته الحكيمة الشجاعة انتصارهم العظيم والى المزيد من الرفعة والتقدم في كافة المجالات.