كثرت في الآونة الأخيرة الرؤى والتوصيفات المتعلقة بمآل الصراع في المنطقة، واللافت هذه المرة، هو ما يتعلق بالدور التركي في المنطقة، هذا الدور مرّ بمراحل متعددة، بداية من الوكالة الأميركية التقليدية التي أعطت دوراً لتركيا في السابق وخاصة بعد حربي أفغانستان والعراق وما أعقب ذلك من أزمة مالية واقتصادية طالت الولايات المتحدة وبقية الدول الأوروبية.
وفي العلاقة الأميركية – التركية، بدأت الفجوة الأكبر بعد قيام ما يسمى “التحالف الدولي – العربي” لمحاربة إرهاب “داعش” ورفض تركيا المشاركة في هذا التحالف، وكثرت التأويلات عن سبب هذا العزوف التركي، بعضها أشار الى الدور التركي في مساعدة تنظيم “داعش” وتقويته والإستثمار في تداعيات ما يحصل في الميدان والجغرافيا، وبعضها الآخر أشار الى حضور “الأصيل – الأميركي” ولا حاجة للدور التركي، طالما أن كلا الجانبين يبحث عن مصالحه الخاصة، التي تتقاطع في العدوان وتختلف في موسم الحصاد.
وقبل الإنتخابات التركية التي جرت في السابع من حزيران 2015 كان حزب “العدالة والتنمية” والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل خاص يمهّد لإقلمة منطقة عازلة على المنطقة الحدودية السورية وبعمق الأراضي السورية وهدفه تحقيق إنجاز ما يصب في مصلحة تعظيم الدور التركي والإستفادة من حصاد الفوضى التي خلقها تنظيم “داعش” الإرهابي وجبهة “النصرة” وما يسمى “جيش الفتح”، لكن حسابات الميدان حالت دون تحقيق الهدف التركي، وانتظر أردوغان نتائج الإنتخابات علّها تعطيه الزخم المناسب لتحقيق أحد أهدافه في إقامة منطقة عازلة، وإظهار تركيا العثمانية الجديدة كقوة إقليمية لها مصالحها وقدراتها، لكن هذه الحسابات سقطت فور الإعلان عن نتائج الإنتخابات وثبت مدى الإنفصام ما بين الحلم والواقع.
فكرة التدخل التركي في المنطقة، أصبحت تثير حفيظة الجانب الأميركي، وخاصة بعد أن توجّه أردوغان مخاطباً المجتمع الدولي وخصوصاً الولايات المتحدة ومردداً موقفه: “لن نسمح مطلقاً بإقامة دولة كردية جديدة على حدودنا الجنوبية في شمال سوريا”، واتّهم الكرد الذين طردوا “داعش” من بعض المناطق بأنهم يريدون تغيير التركيبة الديمغرافية بتهجيرهم السكان العرب والتركمان من بعض المناطق، وفي المقابل لم تكف دوائر أميركية وأوروبية عن إتهام أنقرة بتسهيل عبور المتطرفين الى سوريا ومساعدة تنظيم “داعش”.
وبالمحصلة، إن نجاح الكرد في ترسيخ إدارتهم لمناطق إنتشارهم السورية يضعف نفوذ “داعش” مثلما يضعف تركيا في الصراع وعلى الإستثمار في الأزمة السورية.
وما بين الأسباب والنتائج يحاول حزب “العدالة والتنمية” التركي زيادة شعبيته قبل الوصول الى إستحقاق الإنتخابات البرلمانية المبكرة، لذلك، أقر مجلس الأمن القومي الطارئ في تركيا الخطط العسكرية التي قدمها قائد الأركان الجنرال نجدت أوزال في شأن إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا مقابل الحدود مع تركيا (منطقة عازلة بطول 110 كلم وعمق 30 كلم، تمتد من جرابلس وحتى مارع وعفرين)، والذريعة هذه المرة هي “منع تسلل “داعش” الى تركيا وتارة أخرى منع قيام دولة كردية في شمال سوريا مدعومة من الغرب ومنع تقسيم سوريا”، على حد تعبير أردوغان، بينما قال رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو “إن السبب أمني في الدرجة الأولى”.
المعارضة التركية بدورها، تحذّر من “فخ سياسي” نصبه أردوغان هدفه النيل من حزب “الشعوب الديمقراطية” في الإنتخابات المبكرة.
وفي التساؤلات، لماذا يتم تسريب الخطط العسكرية التركية الى الإعلام، وخاصة أن بعض المناطق التي سيدخلها الجيش التركي يسيطر عليها “داعش” في جرابلس تحديداً؟ ولماذا إندفاعة أردوغان للمنطقة العازلة قبل تأليف الحكومة؟
بذلك يحاول النظام التركي خلط الأوراق التركية من ناحية ومن ناحية أخرى يبعث برسائل الى مَن تحالف معهم بأنه مازال متمسكاً بذات الخطط التي إتفق عليها قبل الإنتخابات بشأن التوغل في الأراضي السورية وإقامة منطقة عازلة واستغلال الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية.
نقول، لكن إقرار إقامة منطقة عازلة على الورق شيء وحسابات الميدان شيء آخر مختلف كلياً وهي تعني مع وقف التنفيذ.
وفي تطوّر الأحداث في المنطقة واللقاء بين وزيري خارجية روسيا (لافروف) وأميركا (كيري) وفكرة تحالف الخصوم لمواجهة الإرهاب والبحث في أفكار محددة لمحاربة إرهاب “داعش”، هي أفكار على طاولة البحث، ومؤشرات تدلنا على فشل المشروع الذي يستهدف سوريا والمنطقة بأسرها، وأن الدول التي فرّخت التنظيمات الإرهابية تحاول البحث عن مخرج للخروج من المستنقع الذي صنعته سياساتها الهمجية، وخاصة بعد أن وصلت الى طريق مسدود وأصبحت مصالحها مهددة وتحالفاتها مهزوزة، لكن طريق عودتها عن غيّها سيكون محكوماً بتغييرات جذرية أولها دفع الأثمان ولعنة التاريخ.