لفهم ما يجري في اليمن لا بدّ من العودة الى الوراء ومعرفة الحقائق التالية: الفرق شاسع بين ما يسمى الإصلاحات الدستورية وبين التغيير الشامل للمنظومة السياسية – الإقتصادية – الإجتماعية.
نحن أمام ثورة في اليمن، وهناك مَن يحاول عبثاً إجهاضها تحت منهج الإصلاحات الدستورية وبطريقة شكلية تهدف لإبقاء الأوضاع كما كانت سائدة عبر عقود من الزمن لصالح السعودية برعاية دولية – إقليمية ومن ثمّ تحت عنوان ما يسمى المبادرة الخليجية.
ما تمّ هو خلع الرئيس علي عبدالله صالح وتسليم “هادي” بمجهود سعودي وإعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية ودعم الميزانية بوديعة مالية، وتسليح “هادي” بمجهود الوصاية الدولية وتوزيع المناصب على القوى السياسية “اللقاء المشترك” ولا سيما حزبي “الإصلاح” و”المؤتمر”.
أشرفت السعودية على عملية هيكلة المناصب العليا وإزالة نفوذ “صالح”، واعتمدت في ذلك على حالة الضعف السائدة في نواة الجيش والدولة اليمنية، وفي المحصلة تقاطعت مع “القاعدة” في مأرب وأبين وشبوة لزيادة إضعاف الجيش، وعملت بيد مع “هادي” لتأمين استقرار سلطته ووصايته على اليمن، وعملت باليد الأخرى مع “حزب التجمع” والقاعدة وقبائل حضرموت ضد الجيش لحسابات أبعد من سلطة “هادي” وتتقاطع مع أهدافها في أماكن أخرى في المنطقة.
وأحزاب “اللقاء المشترك” تبرّعت من أجل تعميم وصايا “المجتمع الدولي” ومنها “إشتراكية وقومية وناصرية” وخضعت لما يسمى “الإنتقال الديمقراطي” على طاولة الحوار والتفاهم والتوافق على الإصلاحات وأحلام الدعم المالي تحت عنوان “الرعاية السعودية ولإنقاذ اليمن من الإنقسام” والمبادرة الخليجية لتقسيم اليمن الى 6 أقاليم وتحت وصاية البنك الدولي، وكل ما جرى بقي مجرد حبر على ورق لا غير.
وفي الحراك الجنوبي، تاهوا في أحلام “الإستقلال” في ظل إنهيار الدولة اليمنية وغير عابئين بإرتدادات الإنفصال والأحتراب الداخلي، ولم يستفيدوا من درس جنوب السودان وتقسيمات “بايدن” للعراق، ولا من ثقافة المجتمع الدولي في ما يسمى الإنتقال الديمقراطي، وفي أمرهم تلاقت الأوهام في حسابات المال والأعمال وخُدعوا بالتسويق المبرمج ومركزه الرياض والإمارات لبيع اليمن والمراهنة على استحواذ الثروة وأحلام المشاريع المتداولة مثل بناء “ميناء عدن” وغيره من التسميات الدارجة في المنطقة بشكل عام، أي أن اليمن يصلح لأن يكون “المثال” الصارخ المراد تعميمه في الوطن العربي الأوسع.
اليمن وخلال السنوات الماضية تحول الى ساحة مستباحة، وكان على فوهة بركان، احتراب القوى السياسية على توزيع السلطة والثروة وأكثرها بني على مجرد وعود، تركيا سعت لتوسيع نفوذها الى جانب قطر من خلال “حزب التجمع” و”القاعدة”، بينما عملت السعودية مع رجال الأعمال في جنوب اليمن وعززت صلتها بـ “حضرموت” ومأرب والبيضاء.
ما حصل في صعود “أنصار الله” وهي ليست حالة إيرانية كما يشاع، وإنما تعبير عن ثورة حقيقية لتغيير منظومة البنى المهترئة لمصلحة عموم الشعب اليمني وخاصة الفقراء منهم، أي أن الثورة في هذه الحالة حملت رؤية سياسية للتغيير وتجاوزت بها ما هو موجود على أرض الواقع من أحزاب إصلاحية وغيرها تدعي بتغيير النظام من خلال إصلاحات دستورية وما يسمى الإنتقال الديمقراطي، وفي حقيقتها تخدم أجندة وصاية وأدوار الدول التي تتلاعب بمصير اليمن.
ودخلت الثورة بقوة في المضمون واصطدمت برموز الفساد في “عمران” وبرمز فساد المنظومة في الداخل والخارج “علي محسن الأحمر”، وانتصروا للجيش في قتال “القاعدة”، وقدموا حلولاً لأزمة الإنهيار في رفض وصاية “المجتمع الدولي” ورفض الأقلمة وتفتيت اليمن، ومن موقع القدرة على ملء الفراغ السياسي، أجبروا القوى السياسية الموبوءة بأمراض البؤس السياسي على توقيع “إتفاق السلم والشراكة” في 21 أيلول 2014، والهدف تغيير المنظومة، وبدأت في البحث عن حلول ممكنة مثل زيادة الأجور والضمان الاجتماعي وميزانيات الصحة والتعليم.
وما حصل هو أن القوى الداخلية والخارجية المتضررة حاولت الإنقلاب على الثورة في كانون الثاني 2015 من خلال البعض وتمرير “إقرار الوثيقة الدستورية” السابقة في مجلس النواب في محاولة للعودة الى المبادرة الخليجية والوصاية الإقليمية والدولية.
وفي الفصل الأخير والمشهد الماثل، كانت “عاصفة الحزم” بقيادة السعودية وهدفها ترسيخ معادلة بائدة والعودة بالأمور الى الوراء إنطلاقاً من حساباتها في الهيمنة على بلد عربي واستخدمت في ذلك ذرائع لا علاقة لها بواقع الحال.
نقول ما يحصل في اليمن هو جزء من كل، والإستهداف يشمل المنطقة بأسرها، لذلك يستمر الصراع، ويتسلّح الشعب اليمني بإرادة وعزيمة من أجل إنتزاع استقلاله الحقيقي بعيداً عن الهيمنة وامتداداتها الدولية.