الدرس التونسي بالغ الأهمية، لم تأتِ الأحلام الوردية من فراغ، إنها حكاية شعب ونضال طويل من أجل إحداث التحولات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، والمفاعيل مستمرة، وفي نتائج الإنتخابات البرلمانية التونسية (تشرين الأول 2014)، كان هناك خطوة جديدة في الإتجاه الصحيح.
إنتهت المرحلة التي قادت فيها حركة النهضة مع حليفيها حزبي “التكتل” و”المؤتمر”، حيث تقدم حزب “نداء تونس” ونال 85 مقعداً في البرلمان الجديد، وهذا يسمح له بتشكيل إئتلاف ليحصل على غالبية 109 مقاعد من أصل 217 مقعداً التي تخوله تشكيل الحكومة، وهنا أصر رئيس حزب “نداء تونس” العلماني الباجي قائد السبسي إنه “لن يحكم البلد بمفرده ويجب أن نحكم مع غيرنا، لكن وفق نتائج الإنتخابات”، وثبت هنا أن تجربة حكم الترويكا التي إمتدت ما بين 2011 – 2014 قد سقطت نتيجة تراجع تمدّد حركة “النهضة”، وبدأت مرحلة جديدة مختلفة تماماً، وهي في جوهرها مختلفة تماماً، وهي تعني إعادة رسم الخريطة السياسية في البلاد وقيام تحالفات جديدة، أي حصل تغيير جذري في المعادلة السياسية، وبرزت قوى سياسية جديدة مثل “الجبهة الشعبية”، وهذا يعني أن خطة تقسيم تونس ما بين “مؤمنين وغير مؤمنين” سقطت وهي الخطة التي وضعت حركة “النهضة” في موقع متقدم، لكن الإنتخابات البرلمانية خلقت واقعاً جديداً، وبهذا استطاعت تونس إعادة توجيه البوصلة في الإتجاه الصحيح.
تونس الخضراء أمام مرحلة جديدة، واستطاعت الإجابة عن التساؤلات الجارية من خلال عملية التغيير نحو الأفضل، وأصبح الطريق معبّداً أمام مستقبل واعد، والإستقرار مطلب الجميع من خلال حياة حرة كريمة.
فاز رئيس حزب “نداء تونس” الباجي قائد السبسي في الإنتخابات الرئاسية، وأصبح أول رئيس للجمهورية الثانية في تونس، وحزبه يسيطر على برلمانها ويسمى رئيس حكومتها “الحبيب الصيد”، بعد إنتخابات رئاسية شهدت تنافساً حاداً بين السبسي وبين الرئيس المنتهية ولايته منصف المرزوقي، حيث جرت جولة الإنتخابات الثنائية في 20 كانون الأول 2014.
وما حققه حزب “نداء تونس” في الإنتخابات التشريعية ومن ثمّ الرئاسية كان بمثابة مفاجأة كبرى لـ “حركة النهضة” التي تصورت قيادتها أنها ستظل محتفظة بموقعها في المركز الأول، ويعزو تقدم حزب “نداء تونس” الذي لم يتجاوز عمره سنتين ونصف السنة الى حنكة مؤسسه الباجي قائد السبسي الذي دخل المعترك السياسي في خمسينيات القرن الماضي، وكان أول رئيس حكومة بعد الثورة في العام 2011، وقدم في واجهة الحزب وجوهاً كانت خليطة من اليساريين والنقابيين ورجال الأعمال واستطاع أن يشكّل واجهة مقبولة سياسياً واجتماعياً.
وحركة النهضة التي لم تقدم مرشحاً للرئاسة، وعندما حسم الصراع بعد الجولة الإنتخابية الأولى التي شارك فيها 27 مرشحاً، في الإعادة بين منصف المرزوقي والباجي قائد السبسي، كان للوقائع السابقة دورها في الحسم عندما حاكمت مرحلة الترويكا وحمّلتها مسؤولية التوترات والإخفاقات التي وقعت خلال السنوات السابقة، وكان شبح الإرهاب ماثلاً والإسلام السياسي الذي تحالف معه المرزوقي، ومن ناحية أخرى، كان هناك الإستقطاب السياسي واضحاً، حيث إصطفت القوى العلمانية والليبرالية والسياسية والقومية الى جانب السبسي.
وبذلك أنهت الإستحقاقات التونسية “الرئاسية والتشريعية” فترة الترويكا التي أدارت المرحلة بعد إطاحة “بن علي”، والواقع الجديد الذي آلت إليه التطورات السياسية أسقط فرضية التعايش بحكم الضرورة، وبذلك استطاعت تونس أن توفر لتجربتها الراهنة فرضيات الإنسجام والتضامن، وسيكون الرئيس السبسي متحرراً من قيود تقديم التنازلات، وتركيبة الحكومة لن تعوزها الغالبية لتمرير مشاريع القوانين التي تضع برنامجه السياسي على محك الإختبار اعتماداً على مساندة الغالبية، أما المعارضة فستكون في حل من أي إعتبار، غير ما يحتمه النقد البناء الذي يطرح البدائل.
وسيكون حزب “نداء تونس” في وضع مريح بسبب تعاقد الثقة مع الناخبين ونجاحه في أن يضمن هامشاً أوسع في إطلاق اليد، من دون مزاحمة أي طرف منافس، عدا ما يتطلبه وفاق الفاعليات التي هبّت لدعمه في الإستحقاقات الإنتخابية.
لقد نأى حزب “النهضة” (الذي احتل المرتبة الثانية في الإنتخابات التشريعية) بنفسه عن إقتحام معركة الرئاسة وربما فعل ذلك بهاجس الإستفادة من أخطاء تجارب “الإخوان المسلمين” في مصر أو إستيعاب الدروس من عثرات الحكم في المرحلة الإنتقالية، وهذا ما ساعد في تعبيد الطريق أمام العملية السياسية، وهو بذلك ضمن في أن يظل طرفاً في المعادلة الحالية، سواء في دعم المعارضة المرتقبة أو في مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة.
ومثلما كان الباجي قائد السبسي عنصراً فاعلاً في المشاورات التي قادت الى تشكيل حكومة كفاءات لرعاية الإستحقاقات الإنتخابية، فهو في وضع مريح كرجل المرحلة الذي يعرف مكامن الأخطاء والعثرات في التجربة السابقة، واختياره لرئيس الحكومة سيحرّره أكثر من أعباء السلطة التنفيذية بالنظر الى حجم المشاكل والصعوبات الإقتصادية والإجتماعية، ومعاودة بناء ثقة الفاعليات المؤثرة في أوساط رجال الأعمال والإستثمار والحياة النقابية والى الإهتمامات الكبرى لفئات الشباب والنساء الذين شكّلوا عماد الثورة التونسية.
التجربة التونسية، ربما هي فريدة في كومة الأحداث التي عصفت بالعديد من الدول العربية، ويشكّل مدخلاً لأي تفاؤل سيأتي لاحقاً، وذلك بعد نجاح الإنتخابات البرلمانية والرئاسية، وهناك نوع من التعقل والموضوعية لدى المكونات التونسية التي تعاملت مع الواقع السياسي كما هو، ولم تجنح الى التطرف في الموقف ولا الى الميل الى إلغاء الآخرين، بحجة أنها تملك “تفويضاً ربانياً” بذلك، ويبدو أن المخاض التونسي يملك حظاً أفضل من سواه بأن ينتهي الى ولادة نظام سياسي قريب من لغة العصر، ربما هذا ما كان يحلم به محمد البوعزيزي قبل أربع سنوات، وليس صدفة أن يتم إختيار تونس “بلد العام 2014” من قبل صحف عالمية، هذا البلد وبالرغم من صغر حجمه مقارنة بجيرانه، لكنه إستحق اللقب بكل جدارة وإقتدار.
لقد خطت تونس خطوة هامة في الإتجاه الصحيح، وقيادتها تؤكّد بأن محاربة الإرهاب أولوية، وكذلك خلق تحولات إقتصادية واجتماعية تساهم في خلق فرص عمل جديدة وبناء نهضة تونسية حقيقية تنعكس على كافة فئات المجتمع التونسي.