يواجه لبنان اليوم تحديات كبيرة على جميع الصعد، فالمنطقة تشتعل بنار الفتنة والحروب الأهلية والاعتداءات الإسرائيلية الشرسة والتطهير الديني والعرقي والامتداد الإرهابي المنظم العابر للحدود الذي أصبح يسيطر على أرض سياسية ينطلق منها للعبث بأوطان وهويات وانتماءات وعقائد شعوب المنطقة.
أما الحل عند بعض الجهات السياسية اللبنانية فهو “النأي بالنفس”، وهي مقولة تفتقد للواقع الجيوسياسي للبنان. عند اغتصاب فلسطين أهدى العدو الصهيوني لبنان هدية مؤلفة من آلاف المهجرين الفلسطينيين. ووضعناهم في مخيمات ومنعنا عنهم العمران. لكن فوضى الحرب الأهلية سمحت لهم ببناء بعض البيوت المتواضعة لإيواء عائلاتهم. الآن لا يستطيع أكبر فلسطيني أن يدخل إلى أي مخيم كيس ترابة، علماً أنهم بشر يتزوجون ويخلفون، وتالياً يتكاثرون. تخيلوا لم لو تحصل الحرب الأهلية، أين كانوا سيعيشون؟ والآن ننتظر قنبلة بشرية ستنفجر في وجوه اللبنانيين؛ فالبشر ليسوا آلات، والشعب الفلسطيني لم يندر العفة. وعليه، وصل عددهم إلى ما يزيد عن ثلاثة أرباع المليون نسمة في بلد مواطنيه لا يتعدون الثلاثة ملايين ونصف المليون. ما هو الحل؟ إما التوطين وإما إعادتهم إلى بلادهم. التوطين مرفوض من معظم العائلات الروحية اللبنانية لأسباب ديموغرافية طائفية في بلد يتغنى بنظام الديمقراطية الطائفية. والبعض الآخر يرفض التوطين من منطلق عقائدي مرتبط بتحرير الأرض. إذن، علينا العمل على إعادتهم إلى بلادهم. كيف نعيدهم إذا اعتمدنا سياسة “النأي بالنفس”؟
أما الأزمة السورية، فحدث ولا حرج. أصبح تعداد اللاجئين السوريين في لبنان يفوق المليون ونصف المليون. كيف نعيدهم إلى بلادهم إذا اعتمدنا سياسة “النأي بالنفس”؟ ناهيكم عن اللاجئين الجدد العراقيين من قوم حرف الـ”ن” الذين سيتبعهم لاجئي حرف الـ”ر”. لا بأس، فليأتوا إلينا جميعهم، من سوريا والعراق، ضيوفاً أعزاء، حيث لا نستطيع أن نناقش دولهم والمجتمع العربي والمجتمع الدولي بشأنهم لأننا نتبع سياسة “النأي بالنفس”. لا تعنينا “داعش” و”النصرة” و”القاعدة”، فهي في سوريا والعراق وليس في لبنان، فنحن لا يعنينا أي من هذه الأحداث، ألم نتخذ قراراً حكومياً وقراراً رئاسياً باتباع سياسة “النأي بالنفس”؟ ليت الآخرين ينؤون بأنفسهم عنا. إننا، يا أهل الربط والحل، لا نعيش في جزيرة نائية لم يتم اكتشافها بعد، واللبنانيون ليسوا روبنسون كروزو!
أما السبيل الوحيد لمواجهة هذه المخاطر، فهو باتخاذ تدابير تدعم اللحمة الداخلية والمواطنية. لقد فرغ مقعد رئاسة الجمهورية، وما زال أهل السياسة يختلفون على جنس الملائكة. واجتاحت لبنان موجات من العمليات الإرهابية، وما زال أهل السياسة يتهمون بعضهم البعض. وتوقف المعلمون عن أداء واجباتهم مطالبين بحقوقهم المحقة، وأهل السياسة ما زالوا منقسمين. والجميع يقول: المشكلة هي في المحاصصة الطائفية والنظام الطائفي. إذن ما هو الحل؟
البعض يقول أن الحل هو في إلغاء الطائفية السياسية، وهذا يثير مخاوف الأقليات، وعلى رأسهم المسيحيين الذين يعتبرون أن حصر إلغاء الطائفية بالمراكز والمؤسسات السياسية واستمرار سيادة الطوائف على رعاياها يبقي المجتمع على طائفيته وينعكس ذلك على أداء الفرد والمجموعات. وحيث أن المؤسسة الأم هي مجلس النواب المنتخب من قبل هذا الفرد وهؤلاء المجموعات، فسيطغى الاختيار الطائفي لأعضاء المجلس، وهو طغيان عددي إسلامي. ومجلس النواب هو الذي ينتخب رئيسه وهو الذي ينتخب رئيس الجمهورية وهو الذي يسمي رئيس مجلس الوزراء وهو الذي يعطي الثقة للحكومة؛ أي باختصار، مجلس النواب هو الحاكم الفعلي للجمهورية. وكي لا يتم اتهام أولئك بأنهم حراس النظام الطائفي، يواجهون الآخرين بطرح العلمنة الشاملة والكاملة، بحيث تنحصر سلطات الطوائف على دور العبادة ويتم توحيد قوانين الأحوال الشخصية فيتحرر المواطن وتتحرر المجموعات من كونها رعايا طوائفها، ليصبحوا مواطنين في بلدهم. ولكن هذا الطرح يثير حفيظة المسلمين. ألا يكفي أنهم مواطنون في الدولة العربية الوحيدة التي لا دين لها، والدولة العربية الوحيدة التي يرأسها مسيحي ويقود جيشها مسيحي؟ كيف يرضون بتدخل دولتهم في شؤونهم الدينية لتلغي شريعتهم في الزواج والطلاق والميراث والوصاية على الأولاد وزواج المسلمات من غير المسلمين؟ فالإسلام دين ودنيا… إيمان ودستور. إذن، ما هو الحل؟
إن الأزمة الحالية تكمن بغياب العصب المناطقي لصالح العصب الطائفي، ويتجلى ذلك في انتماءات نواب المناطق لكتل تخدم أحزابها السياسية الطائفية على حساب ناخبي مناطقهم. فمثلاً نائب الشوف جورج عدوان ينتمي إلى كتلة القوات اللبنانية ويخدم مصالحها على حساب منطقة الشوف، وهكذا نائب الشوف محمد الحجار وانتمائه لكتلة تيار المستقبل، ونائب بيروت غازي العريضي الذي ينتمي إلى كتلة النضال الوطني التي يخدمها على حساب ناخبيه البيروتيين، ونائب البقاع إميل رحمة الذي ينتمي إلى كتلة الإصلاح والتغيير التي يخدم مصالحها على حساب مصالح ناخبيه البقاعيين؛ وهذا ينسحب على جميع النواب من غير رؤساء الكتل. والمشكلة ليست في النواب، بل المشكلة بالنظام السياسي الطائفي الذي يجبر النائب على التظلل بمظلة طائفته كي يبقى ويستمر. وخطورة هذا النظام ليس في غياب العمل النيابي المناطقي الذي هو أساس العمل البرلماني فحسب، بل في تهميش المصالح المناطقية لمصلحة التحزب الطائفي؛ وهو انعكاس حتمي لطبيعة النظام الانتخابي الطائفي لمجلس النواب. نعم، إن كل نائب هو نائب الأمة، ولكنه قبل ذلك نائب منطقته ويمثل شريحة من الشعب انتخبته، أليس هذا هو النظام الديمقراطي، حكم الشعب من خلال ممثليهم؟ ولكن، هذا التوزيع الكاذب للمقاعد النيابية في ظل المحاصصة الطائفية هو الذي يعزل النائب عن منطقته لمصلحة طائفته، كما يعزل المواطن عن مصالحه الحياتية والاجتماعية والمناطقية والطبقية لمصلحة العشيرة الطائفية؛ والنتيجة، الانسلاخ الكلي عن المواطنية لصالح التابعية الرعوية.
إن المبدأ الأول في العلوم السياسية لقيام ما يسمى الدولة-الأمة (Nation-State) هو الشعور المسمى بـ”الإحساس بالنحن” (we-feeling)؛ ويعني ذلك التعاطي مع الآخر غير اللبناني بصفته “الآخر”، بينما النظر إلى اللبناني بصفته جزء من الـ”نحن” بغض النظر عن دينه أو انتمائه السياسي أو لونه. أي نكون “نحن” اللبنانيين، و”هم” غير اللبنانيين. ولا يعني ذلك كره “الآخر”، ولكن التعاطي مع اللبناني كالتعاطي مع أحد أفراد العائلة من دون اعتماد العنصرية. أنا أحب أخي لأنه مني وأنا منه، ولكن، إذا اعتدى أخي على أحدهم، واجبي أن أنصر الحق؛ ولكن من دون التجني على أخي، وبطريقة تعكس أخوتي له. فبالرغم من معارضة أكثر من نصف الأميركيين لاجتياح بلادهم العراق، ولكننا لم نسمع رأي واحد يعبر عن شماتة بسقوط أي جندي أميركي، بل قام الشعب الأميركي المعارض بدعم جنوده بشكل كلي وشامل ووجه انتقاداته إلى ساسته داخلياً ولم يسمح بالتأثر بالموقف العالمي من هذا الاجتياح… هذا يسمى الانتماء الوطني، أو علمياً “الإحساس بالنحن”؛ وهذا هو لب السيادة.
أما في لبنان، ونتيجة لنظامه السياسي، لا يتملكنا “الإحساس بالنحن” كلبنانيين، بل “الإحساس بالنحن” كموارنة و”هم” الدروز مثلاً، أو “نحن” السنة وهم “الشيعة”، وهكذا دواليك. وهذا ما يؤدي إلى وجود شعوب لا شعب واحد، وتالياً، أوطان، لا وطن واحد. وهنا تنتفي الدولة-الأمة لصالح “مزرعة الأمم”، وتنتفي معها السيادة؛ لأن السيادة ليست بالأرض، بل بوحدة الشعب. إذن، ما هو الحل؟
إن أساس المشكلة هو مجلس النواب، وعليه، يجب علينا أن نلغي الطائفية من مجلس النواب من دون المس بسيادة الأحوال الشخصية الطائفية كي لا نثير حفيظة المسلمين (المحمديين)، مع تأسيس مظلة مؤسساتية شرعية وقوية تعطي الاطمئنان لمخاوف الأقليات. إذن، فالحل هو بإقامة مجلس للشيوخ.
إن المقترح الذي سأعرضه مبني على دراسة دول عريقة بمجالس شيوخها. إن لكل بلد في العالم تقسيمات تعكس طبيعته السياسية-الاجتماعية قبل توحّده في ظل الدولة-الأمّة، كسويسرا والولايات المتحدة. وعليه، وكي لا نغوص في التعقيدات السويسرية، ستكون المقاربة من خلال المقارنة بين الولايات المتحدة ولبنان.
إن الولايات المتحدة مؤلّفة من خمسين ولاية، حيث لكل ولاية قوانينها الخاصة وحكومتها الخاصة، ولكنهم جميعهم تحكمهم حكومة مركزية تحترم سيادة قوانين وشرائع كل ولاية على أن لا تتعارض مع القوانين المركزية للوطن. كما يجمعهم جيش واحد وعملة واحدة ورئيس واحد وحكومة واحدة وسياسة نقدية واقتصادية واحدة وسياسة خارجية واحدة. هكذا لبنان، المؤلف من طوائف متعدّدة حيث لكل طائفة قوانينها الخاصة، ولكنهم جميعهم تحكمهم حكومة مركزية تحترم سيادة قوانين وشرائع كل طائفة على أن لا تتعارض مع القوانين المركزية للوطن. كما يجمعهم جيش واحد وعملة واحدة ورئيس واحد وحكومة واحدة وسياسة نقدية واقتصادية واحدة وسياسة خارجية واحدة.
ويتألف مجلس الشيوخ الأميركي من مئة عضو حيث لكل ولاية عضوين يمثلانها بغض النظر عن كبرها أو عدد سكّانها، وذلك كي تتعادل حقوقها السياسية أمام الحكومة المركزية؛ حيث أن التمثيل الشعبي الديمقراطي يكون من خلال مجلس النواب الأميركي. من هنا، إن أفضل اقتراح هو أن تقوم كل طائفة بانتخاب ممثّلين إثنين عنها على صعيد الوطن، بحيث يتم التنفيس الطائفي من خلال مجلس الشيوخ ويتم تحرير مجلس النواب من المستنقع الطائفي الذي ما زال يهدّد الاستقرار والسلم الأهليين والهوية الوطنية والسيادة. فيصبح لكل طائفة زعيم أول وزعيم ثاني، كل يعرف حجمة عند طائفته بحيث يستطيع الآخرون أن يتعاملوا معه على هذا الأساس من دون اتهام هذا الزعيم بوصوله بأصوات طائفة أخرى، ومن دون التشكيك بشعبيته الطائفية. أما ما هي فوائد هذا المجلس وكيفية تنظيمه، فهو كالآتي:
يتم إبعاد زعماء الطوائف عن مجلس النوّاب.
يصبح للطوائف الثلاث الكبرى – الموارنة والشيعة والسنة – ممثّلين رسميين بحيث أن المقاعد الرئاسية الثلاث لن تتطلّب ممثّلين عن طوائفهم بل رجال دولة بغض النظر عن شعبيّتهم ضمن طوائفهم. فنحصل على رئيس جمهورية ورئيس مجلس نوّاب ورئيس حكومة معتدلين ورجال دولة ليسوا بحاجة إلى شعبية طوائفهم؛ وذلك من دون اللّجوء إلى مقولة الغبن.
يصبح زعماء الطوائف في مجلس واحد يديرون خلافاتهم وهواجسهم من دون اختراع مجالس خارجة عن الدستور كطاولات الحوار، وإضاعة الوقت وهدر المال لتنظيمها.
حيث أن هناك 16 طائفة مسجّلة في لبنان وذلك بالغياب الواقعي للطائفتين اليهوديتين (الطائفة الإسرائيلية والطائفة الموسوية)، فإن الطوائف الإسلامية (المحمّديّة) منها هي أربعة: الشيعة والسنة والدروز والعلويين. وعليه، وإذا كانت أعداد الأعضاء سواسية، سيكون مجلس الشيوخ مجلساً مسيحيّاً بامتياز بوجود 24 عضو مسيحي من أصل 32 عضو، مقابل 8 أعضاء للمحمديين؛ فمن الضرورة أن يترأسه محمّديّاً. وحيث أن الطوائف السبعة الكبرى في لبنان تتكون من الموارنة والشيعة والسنة والأورثوذوكس والدروز والكاثوليك والأرمن، فمن المفضّل أن يترأس هذا المجلس أحد الأقليّات المحمّديّة الرئيسية، من هنا كان مقترح رئاسة الدروز لهذا المجلس. وحيث أن حصة الدروز في الدولة موازية لحصة الكاثوليك، يكون نائب الرئيس من الكاثوليك.
إن الحجّة المضادة التي تقول بأن هناك ثلاثة رئاسات إحداها مسيحية فقط، وعليه، يجب أن يترأس مجلس الشيوخ مسيحي للتوازن، هي حجّة تفتقد إلى سياسة الواقع (Real Politique). إن مجلس ذو أكثرية ساحقة من المسيحيين يجب أن لا تكون رئاسته بيد مسيحي كي لا يفقد مصداقيّته. كما أن رئاسة المجلس لا تستطيع أن تؤثر على قراراته بوصف أعضائه زعماء طوائفهم التي تمثّل أكثريّة ساحقة لا يستطيع الرئيس الأقلّي من قمعها أو لجمها.
وبذلك، نكون قد حققنا أبسط شروط التوجه نحو بناء الدولة-الأمة من دون المس بمشاعر المحمديين ومن دون إثارة مخاوف الأقليات وعلى رأسهم المسيحيين. فيكون مجلس الشيوخ الحارس الشديد لحقوق الطوائف بوجه التهميش أو الطغيان الديني أو المس بحقوق الأفراد والمجموعات. ومن جهة أخري، نستطيع أن نعتمد أي نوع من أنواع قوانين الانتخابات النيابية من دون إثارة مخاوف هذه الطائفة أو دعم مطامع تلك. ونستطيع أن نوزع المقاعد النيابية على حسب الكثافة السكانية من دون الأخذ بالاعتبارات الطائفية. كما يستطيع المواطن أن ينتخب حسب مصالحه المهنية أو المناطقية من دون الانطواء في قوقعة طائفته بوجه الطوائف الأخرى؛ فقد قام بممارسة اختياراته الطائفية بانتخاب مجلس الشيوخ. وبذلك يصبح هناك إبن جبل لبنان وإبن بيروت وإبن الجنوب، وإبن الشمال، إلخ؛ بدلاً من الماروني والشيعي والسني والدرزي والأرمني، إلخ. ونكون واجهنا الطائفية بالمناطقية التي تجمع أفراد المنطقة بتعدديتهم الطائفية، على أهداف مشتركة. وحيث أن المشكلة الاجتماعية-السياسية في لبنان ليست مشكلة مناطقية بل طائفية، نكون قد وضعنا حجر الأساس لبناء الدولة-الأمة… دولة المؤسسات والقانون والمواطنية.
وعندها ينتخب مجلس النواب رئيسه الشيعي معتمداً على المصالح السياسية بدلاً من الاعتبارات الطائفية، وينتخب رئيس الجمهورية الماروني على نفس الأسس وهكذا يكون الوضع بتسمية رئيس مجلس الوزراء السني وعند إعطاء الثقة للحكومة. وعندها كذلك نستطيع أن نشهد تحالف أكثري يحكم وتحالف أقلي يعارض، من دون التحجج بالميثاقية الطائفية؛ فالعائلات الروحية وقياداتها السياسية الكبرى موجودة في مجلس الشيوخ.