تركيا تحاول العودة بعقارب الساعة الى الوراء، ازدواجية مفرطة وأهداف عثمانية، ويسأل كثر في تركيا عن سياسة تركيا إزاء “داعش”، وكيف استطاعت السلطات التركية مبادلة مطلوبين أو معتقلين من “داعش” بالرهائن الأتراك الـ 49 في الموصل؟.
ويرى البعض أن الفضل يعود الى “قانون الاستخبارات الجديد” الذي اعترضت عليه المعارضة التركية خلال مناقشته، وهو الذي أفسح المجال أمام الاستخبارات لتنفيذ عمليات خارج الحدود والتفاوض على الرهائن، (هذا القانون يسمح بلقاء إرهابيين).
تركيا التي أعلنت في تشرين الأول 2013 أن “داعش” تنظيم إرهابي وهي أكثر الدول تضرراً منه (صحيفة يني شفق 22/9/2014)، لكنها تقول أيضاً، “إن الولايات المتحدة التي أعلنت الحرب على “داعش” وتتزعم تلك الحرب، لا تواجه الخطر الذي نواجهه، و”داعش” لا يهدّدها. و”أميركا هي التي أنشأت هذا التنظيم وهي التي تحاربه اليوم، ولن نندهش إذا صالحته في المستقبل، بل وتعاونت معه! لكن تركيا هي جارة هذا التنظيم في المنطقة، وإذا انحسرت الهبة الأميركية وانتهت الى مصالحة أو تعاون، غلبت كفة تركيا، وهل نشارك في هذه الحرب التي لا نعرف كيف ينهيها قائدها ومتى؟”.
تركيا تدعي أنها ستتخذ التدابير من أجل حماية أمنها من “داعش” لكنها لن تشارك في حرب برية ضده، ولن تسمح باستخدام قواعدها الجوية، فالمشاركة في حرب على أي جزء من العالم الإسلامي، تنذر بنهاية السياسة الخارجية لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم وانهيارها”.
وعن احتمالات تغيير تركيا موقفها من الحرب على “داعش”، تبارى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته مولود شاوش أوغلو خلال المنتدى المخصص لمكافحة الإرهاب على هامش اجتماعات الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة في التشديد على استعداد بلدهما لتقديم الدعم العسكري أو المساعدة اللوجستية في مجال الإمداد والتموين للحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش في سوريا، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الأميركية جون كيري للتأكيد “أن أنقرة تعهّدت بالمشاركة في التحالف ضد التنظيم الإرهابي “داعش” وستكون في صفوفه الأمامية”.
إن أبرز المعوقات أمام مشاركة تركيا في الحرب على “داعش” هو ما أعلنته الحكومة في تشرين الأول 2013 “أن داعش تنظيم إرهابي، هذا لم يحل دون تعاطف قطاع من الشعب التركي، خصوصاً وسط مؤيدي حزب “العدالة والتنمية الحاكم” مع ذلك التنظيم”، ومن ثمّ تتخوّف الحكومة التركية من أن تفضي مشاركتها العسكرية في التحالف الدولي المعني بمحاربة “داعش” الى تحريك نزعات العنف لدى التيارات والعناصر الدينية المتشدّدة داخل تركيا، كما تقول التقارير أن 10 % من مقاتلي “داعش” هم من الأتراك، الأمر الذي يثير مخاوف الدول المشاركة في التحالف وخصوصاً تركيا، من قيام خلايا نائمة بتنفيذ عمليات إرهابية انتقامية داخل هذه الدول.
وهناك سؤال يتعلّق باليوم التالي لإنتهاء الحرب على “داعش” خصوصاً ما يتعلّق بملء الفراغ الجيواستراتيجي والإثني في سوريا والعراق، وبعدما أعلن الرئيس باراك أوباما في كلمته أمام الأمم المتحدة عدم ممانعته اضطلاع القوات السورية بهذه المهمة، لافتاً الى أن حل الأزمة السورية سياسي بامتياز، وهي تصريحات مثيرة تبعث على قلق الأتراك، وبقدر ما تعزز هذه التطورات من أزمة الثقة بين واشنطن وأنقرة، تتخوّف الأخيرة وهذه الدول من أن تؤسس لتوسيع وتعزيز التموضع الاستراتيجي لإيران على نحو يؤدي الى تزايد نفوذ إيران في المنطقة ويؤدي الى معادلة إقليمية جديدة نتيجة تغيّر موازين القوى في المنطقة وخاصة بعد أن أحكم الحوثيون سيطرتهم في اليمن وتوصلوا الى اتفاق “السلام والشراكة الوطنية” مع المكونات الأساسية في اليمن.
وتتخوّف تركيا من قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق، ورغم أن تركيا أبدت تقبلها للفكرة من الناحية النظرية بعد أن نسّقت مصالحها الاقتصادية مع كردستان العراق، لكنها من جهة أخرى تتوجّس مخافة أن يسفر الإجهاز على “داعش” عن نجاح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان، في تحقيق أهدافه وكسب تعاطف المجتمع الدولي معه والسماح له بإعلان كيان كردي مستقل أو يتمتّع بالحكم الذاتي في كردستان سوريا كمكافأة له على المشاركة في قتال لـ “داعش”، ويكون ثاني إقليم كردي مستقل على حدود تركيا الجنوبية، وهذا من شأنه أن يؤثر على أكراد تركيا ويرفع سقف مطالبهم ويفجر عملية السلام القلقة والمتعثرة بينهم وبين الحكومة التركية.
وتترقّب تركيا الفوائد التي ستعود عليها بعد أن تتغيّر الخريطة الجغرافية والإثنية في العراق وسوريا بعد التخلص من “داعش”، وهي تنتظر فرصتها لبلوغ مغانم استراتيجية هائلة من قبيل استعادة محافظة الموصل، التي كانت تضم معظم إقليم كردستان الحالي، إضافة الى أجزاء من محافظة نينوى الحالية، بعدما تخلّت عنها بموجب اتفاق 1926 مع بريطانيا والعراق، وهو حلم تركي قديم منذ أيام “أتاتورك”، الذي صرّح يوماً بأنه: “عندما تمتلك تركيا القدرة على استعادتها ستفعل”، وبدوره عمد الرئيس التركي السابق “تورغوت أوزال” الى إرسال قوات تركية لاحتلال شمال العراق أثناء حرب 1991 لإنشاء فيدرالية بين أكراد العراق وتركيا، تستعاد خلالها الموصل ونفطها، لكن معارضة الجيش التركي ورئيس الحكومة حينها “يلديريم أقابولوت” حالت دون ذلك.
وفي الثامن من شباط العام 2007 قال الرئيس التركي السابق عبدالله غول: “لقد أعطينا الموصل في العام 1926 الى عراق موحد، والآن نريد أمامنا عراقاً موحداً” في إشارة الى أنه في حال تقسيم العراق وعدم بقائه موحداً، فإن لتركيا الحق في استعادة الموصل”.
ومن شأن تقسيم العراق كما روّج جو بايدن، “أو إذا ما أعقب الحرب على “داعش”، أن يوجد في نظر أنقرة “دولة سنّيّة محاذية وموالية لها” ما يوفّر لتركيا نفوذ غير مسبوق في العراق، إذ يمكن مثل هذه الدولة السنّيّة أن تمد الجسور الجغرافية، وهي ستضم محافظتي الأنبار ونينوى، وهي ستقوض التواصل بين طهران وبغداد من جانب وبين دمشق و”حزب الله” من جانب آخر”.
إن السلطات التركية عازمة على المضي في انتهاج استراتيجيتها المزدوجة في التعاطي مع الحرب على “داعش”، بحيث يمكنها بشقها الأول المعلن في التشديد على الدور اللوجستي والإنساني لتركيا في هذه الحرب، وتلافي إظهار التورط العسكري في محاربة “داعش” مخافة استثارة دوائر تركية متعاطفة معه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ حزب العدالة ومسيرته، أو التعرض لعمليات انتقامية موجعة من التنظيم وأعوانه.
أما الشق الآخر الخفي، فيتجلى في عدم تردد أنقرة في تقديم مختلف صور التعاون العسكري الممكنة مع التحالف الدولي سرّاً، وفي هذا المجال أوردت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية و”طرف” التركية المعارضة: “أن الرئيس التركي أردوغان بلور خلال اجتماع مغلق عقده أخيراً مع ممثلي وسائل الإعلام، الموالية لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، عرضاً لخطة التعامل مع التحالف الدولي ضد “داعش” تقوم على إطلاق حملة إعلامية بشأن موقف تركيا من التحالف بعد رفضها التوقيع على بيان جدة، هدفها إظهار رفض تركيا الاشتراك في أي عمل عسكري للتحالف مع تقديم المساعدات العسكرية له سرّاً بما في ذلك فتح القواعد العسكرية الأميركية الموجودة على الأراضي التركية، وذلك تفادياً لأية اضطرابات قد تحدث داخل القاعدة الشعبية لحزب “العدالة والتنمية” أو بين صفوفه.
إن مطالبة تركيا وجود منطقة عازلة على الحدود السورية – التركية وعلى عمق 30 كلم على امتداد الحدود تحت ذريعة “منطقة آمنة” للاجئين السوريين وفرض حظر جوي يقوم به التحالف الدولي، يفسّر النيات والأهداف الخبيثة للسلطات التركية وهي أهداف بعيدة المدى تفسّر أحد أسباب الحرب التي تشنّ ضد سوريا وهي تتكامل مع الأهداف الأميركية والغربية عموماً.
وحاولت تركيا خلط الأوراق في المنطقة بعد أن فشلت خططها في إقامة منطقة عازلة على الحدود السورية – التركية، ووصول تنظيم “داعش” الإرهابي الى عين العرب (كوباني) وهي تتطلّع الى الرهان على هذه الورقة، فهي عادت الى واجهة الحدث بعد انحسار دورها، ولأن وصول البعض من “البشمركة” عبر الأراضي التركية يفتدي عملياً الجيش التركي الذي رفضت قيادته السياسية إقحامه في معركة “كوباني”، أولاً، لأسباب تتعلّق بنزاعها المستمر مع الأكراد ورفضها مطالبهم بحكم ذاتي فعلي، ولحسابات أخرى تتعلّق بدفع الثمن داخلياً.
وأرادت تركيا، من وصول قوات محدودة من “البشمركة” العراقيين، وبعض الأهداف التي تتعلّق بتقليص نفوذ ودور “حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي” الذي تعتبره أنقرة مكملاً لـ “حزب العمال الكردستاني”.
والوقائع تؤكّد أيضاً، أن معركة عين العرب (كوباني) ليست مجرد معركة على رقعة جغرافية بين “داعش” والمقاتلين الأكراد، بقدر ما هي معركة مشاريع سياسية تتعلّق بترتيب المشهد العام في المنطقة بأسرها، وبالنسبة لتنظيم “داعش” الإرهابي، يعتبر معركته في عين العرب هي من أجل توسيع حدود دولته المزعومة وامتلاك المزيد من القوة في ظل حرب “التحالف” ضده.
ومن جهة أخرى هناك اختلاف وخلاف بين الجانب الأميركي من جهة وبين الجانب التركي من جهة أخرى، ومحل الاختلاف يتعلّق بالأولويات والأجندة إزاء الحرب ضد “داعش” والأزمة السورية والوضع في العراق، أما الخلاف فهو يتعلّق بتناقض الأهداف والمصالح.
ومنذ الإعلان عن إقامة “التحالف الدولي” ضد “داعش”، في مؤتمر جدة، رفض الجانب التركي توقيع بيانه الختامي، ووضعت أنقرة مجموعة من الشروط التي تعبّر عن أجندتها الخاصة للمشاركة في التحالف الدولي، أي أن هناك ما يشبه “حرب الأولويات”، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن جازماً بأنه لن يسمح بإدخال أسلحة الى “كوباني” لدعم المقاتلين الكرد.
لكن بعد اندلاع المعارك وضربات التحالف، وجد أردوغان بأن استراتيجيته الرافضة دعم “كوباني” في مواجهة “داعش” أصبحت تتآكل مع دخول الآلاف من أكراد تركيا الى المدينة للدفاع عنها.
وحالة الشد والشذب بين أنقرة وواشنطن تعكس الى حدٍّ كبير فشل المفاوضات بين الجانبين، وشروط أنقرة معروفة، وواشنطن لن تدفع الثمن المطلوب وهو استهداف سوريا والحد من مخاوف أنقرة تجاه الصعود الكردي، فيما تقول واشنطن إن كل شيء ينبغي أن يكون وفقاً لحساباتها وبالتوقيت الأميركي، وهي حسابات ترى أنقرة أن هدفها هو قطع الطريق أمام إقامة منطقة عازلة شمال شرق سوريا، تراهن عليها أنقرة لمحاربة سوريا وفق أجندتها التي فشلت في جميع محاولاتها السابقة.
وبين تعارض الحسابات الأميركية والتركية، تزداد الضغوط على الحكومة التركية في كل الإتجاهات، وثمة تحذيرات روسية وإيرانية وصلت الى حد تهديد تركيا إذا ما قامت بخطوة على الأرض.
وعلى المستوى السياسي أدّى الإنفتاح الأميركي على كردستان الى مزيد من الدعم الغربي لكردستان والدعوة الى تسليحهم، وفي الداخل التركي تزداد التظاهرات والإحتجاجات والإشتباكات التي اندلعت في العديد من المدن الكردية والتركية احتجاجاً على الموقف التركي من معركة “كوباني”، وضعت نهاية لعملية السلام بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية ولولا تدخل الزعيم الكردي عبدالله أوجلان ونداءاته المتتالية لعدم الإنجرار الى العنف، ولجهة الحفاظ على الاستقرار في تركيا، وهذا يعني الاقتصاد التركي الذي يكاد يكون المنجز الوحيد الباقي لحزب العدالة والتنمية في خوض معركة الإنتخابات البرلمانية منتصف العام المقبل، وهي إنتخابات يأمل أردوغان منها الإنطلاق فعلياً في الإنتقال من النظام البرلماني الى الرئاسي.
والسؤال، ماذا يعنيه وصول قوات “البشمركة” من إقليم كردستان الى “كوباني”؟ ألا يعتبر ذلك بمثابة شرعية سياسية للحركات والأحزاب الكردية؟ وكيف قبل أردوغان دخول قوات “البشمركة” وبأسلحة ثقيلة؟ وهل هي محاولة لزرع الفتنة بين “البشمركة” ووحدات حماية الشعب التابعة لحزب الإتحاد الديمقراطي، ما يتطلب من الكرد الحذر والإنتباه، لأن حدود معركة عين العرب (كوباني) لا تتوقف هنا كون السجال الأميركي – التركي يتعلّق بتضارب الأولويات والمصالح ولعبة الأدوار.
تركيا تمارس ازدواجية مفرطة وتتغيّر سياستها المعلنة تبعاً لما تراه فرص سانحة لتحقيق مكاسب على حساب الآخرين وهي بذلك حولت نظرية “صفر مشكلات” الى مشاكل بالجملة، ويبدو أنها قررت المضي قدماً في تقديم خدماتها المشبوهة وأوراقها كافة للجانب الأميركي وهي التي مازالت تراهن على دور يراود أحلامها العثمانية، وهي بذلك تضع المنطقة على فوهة بركان ستكون فيه هي أول الخاسرين إذا ما حاولت استخدام قواتها البرية لإقامة المنطقة العازلة المفترضة وهي ستمثل إعلان حرب على سوريا تحت غطاء “التحالف الدولي” المزعوم، مثل هذا الاحتمال وارد بعد أن فشل أعداء سوريا من تحقيق أي إنجاز.
سوريا ليست وحدها ومعها كل الشرفاء في أمتنا، وسيفشل الصغار كما فشل أولياء أمورهم في واشنطن وتل أبيب وغيرها.
محمود صالح