في حمأة المذابح والمجازر الاسرائيلية التي شاهدناها في قطاع غزة، فتحت الكنيسة “الغزوية” أبوابها لمئات اللاجئين الفلسطينيين، ودعت أئمة عدد من المساجد المدمرة بالعدوان الإسرائيلي إلى رفع الأذان من الكنيسة … موقف عربي نبيل يصدر عن مسيحيي فلسطين، وهو أبداً ليس غريباً عنهم، فلقد ظلوا على الدوام في صدارة المقاومة الفلسطينية منذ فجر الصراع العربي – الإسرائيلي وحتى يومنا هذا.
يذكرنا هذا الموقف المشرّف بما يتعرض له مسيحيوالعراق من قتل وتهجير على أيدي عناصر “الدولة الاسلامية في العراق والشام” “داعش” وأتباعها ،والمعركة الضارية التي تخوضها عناصر الجيش اللبناني ضد الجماعات التكفيرية في جرود عرسال والتي لا تستبعد اوساط مطلعة أن تترافق مع عمليات تفجير إرهابية تقوم بها عناصر ارهابية قد تصل الى حدود اغتيال بعض الشخصيات، وتفجير الوضع الامني في عدد من المناطق اللبنانية.
كنائس تحرّق وبيوت تدمر، ومطارنة يختطفون ويقتلون، ذلك هو حال مسيحيو العراق الذين يواجهون ابشع اساليب القتل والعذاب والتحقير والتمييزوالاغتصاب على ايدي “الداعشية “التي عمدت الى اجتياح مدينة الموصل ، حاضنة المسيحية العراقية منذ القرن الأول للميلاد،التي تُفرّغ من مسيحيّها، وقبلها كانت الرقة حقلاً لأبشع الابتلاءات التي تعرض لها مسيحيو سوريا، ومن بعدها معلولا وكسب وغيرها … ومع ذلك، لم نسمع أصواتاً قوية من الحركات الإسلامية أو رجال الدين الإسلاميين أو دور الإفتاء، وإن صدرت مثل هذه الأصوات، فغالباً ما تكن خافتة وعلى استحياء ومن دون تسمية الأشياء بأسمائها.
من استمع لخطبة زعيم “تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) ابو بكر البغدادي وهو يزعم بأنه “ابتلى بأمانة ثقيلة” تتمثل في تنصيبه “خليفة ” على المسلمين داعيا المسلمين لطاعته،
ومن قرأ بيانات قادة “الدولة الاسلامية” التي تسيل من حبرها كل الافكار المشحونة ادمغتها بالمتفجرات وقنابل الحقد والكراهية والتكفير، يدرك ان ارهابا جديدا بدأ يستعر كالنيران في اوصال المشرق العربي الذي اوشك مسيحيوه على دخول عتبات حقبة جديدة من بوابة الموصل ثاني اكبر مدينة عراقية التي خلت من سكانها الاصليين اصحاب الديانة المسيحية ودنست كنائسها وتعرضت مقدساتها للتخريب والسلب على يد مقاتلي”داعش” الذين يمارسون ابشع انواع الجرائم والمضايقات والتنكيل ،وايقاف عمل المئات من مسيحيي العراق ممن يعملون كأطباء وممرضين ومدرسين ،وطرد العاملين منهم في الوظائف والمؤسسات العامة حتى وصلت وقاحتهم الى حد اصدار الفتاوى والاومر التي تلزم المسيحيين بمغادرة المدينة او دفع بدل مالي “جزية” او اعتناق الاسلام او القتل.
لا يختلف اثنان على أن مثل هذه السلوكيات أبعد ما تكون عن الإسلام، دين المحبة والإخاء والمساواة والعدالة، بل إنها أبعد عن كل الديانات والعقائد والأعراف.
هناك خوف وقلق حقيقى على مستقبل العراق بعد الغزوة “الداعشية ” من الإرهابيين المرتزقة المأجورين على مسيحيي الموصل من أجل القتل والخراب، واقدامهم على حرق التراث الإنسانى فى العراق وتعرضهم للكنائس ذات التاريخ القديم والعريق، مثل مطرانية السريان الكاثوليك، وسعيهم لجر العراق الى التفتيت والقضاء على الدولة المدنية ، التي يشكل مسيحيو الموصل احد أعمدتها الأساسية.
انها حقا جريمة العصر حينما يتعرض المكوّن المسيحي في العراق الى عملية “تهجير” ممنهجة ،و”تطهير” عرقي شامل ، كما انها وصمة عار على جبين حكام الانظمة العربية الرجعية ،ذلك ان عملية التهجير القسرية التي ينفذها الإرهابيون بحق المسيحيين في الموصل، لا تشكل تهديدا عليهم فحسب، بل هي تهديد لكافة المكونات العراقية والمنطقة والعالم وتناقض تعاليم الاسلام ودعواته الانسانية ،فمدينة الموصل هي أكثر المدن العراقية التي تتمتع بتنوع ديني وقومي منذ آلاف السنين إذ يتواجد في المدينة القوميات العربية والكردية والتركمانية والآشورية والكلدانية والسريانية والأرمنية والمكونات الكاكائية والشبكية وأتباع الديانات الإسلامية والمسيحية والإيزيدية والصابئة وتعتبر الموصل مركزا آثاريا للحضارة الآشورية ،وذلك بالرغم مما شهدته هذه المدينة المتنوعة من موجات من الهجمات على المسيحيين منذ عام 2003 الامر الذي ادى الى تقلص سكانها من المسيحيين وخاصة من الاشوريين والكلدانيين والشبك وغيرهم.
فماذا تنتظرون يا اهل الحل والعقد …؟
الم يتعرض الارهابيون من قبل للمزارات والأماكن الإسلامية المقدسة، كما يتعرضون اليوم للكنائس ؟
الا تعتبرون ان ما يحصل في الموصل هو عملية تشويه لصورة الإسلام ونمو ثقافة إنكار الآخر، وان هذه الثقافة تعمل على إنهاء الوجود المسيحي في المنطقة من خلال تهجير المسيحيين وتدمير الكنائس والمعالم التاريخية والتراثية للديانة المسيحية في العراق؟
لماذا لا تسارعون الى المحافظة على التراث والوجود المسيحي في المنطقة ،وتوفير كل السبل والامكانيات لتوقيف حركة النزوح المسيحي الجماعي غير المسبوقة في تاريخ العراق من مناطقهم الأصلية ، بعد ان توعدتهم “داعش” بالقتل والتصفية إن لم يعلنوا إسلامهم أو يدفعوا الجزية؟
ما هو جوابكم على موقف فرنسا التي أبدت حكومتها كل استعداد لتسهيل استقبال المسيحيين المطرودين من العراق على أيدي تنظيم “داعش”، كيف ستتعاملون مع هذه الخفة التي ابداها وزيري الداخلية برنار كازنوف، والخارجية لوران فابيوس،حيال موضوع خطير كموضوع تهجير المسيحيين اليوم من العراق وغدًا من غير العراق؟
هذا الاعتداء على مسيحيي الموصل يستحق التساؤل الى اين سيصل في فضاء المشرق العربي تزايد الجماعات التكفيرية في دول متأزمة وما اذا كان لايزال ممكنا سماع اصوات المسيحيين وسط ضجيج اوسع واكبرمن العراق الى السودان ؟
ان الوجود المسيحي في المشرق العربي يوضح صفة هذه الرقعة الجغرافية كموزاييك طوائف يمثل فيه المسيحيون “الاسمنت” الذي يلصق الكل ،وهذا “الاسمنت” هو الملح بمقولة السيد المسيح حول دور المسيحيين وانفتاحهم عندما يقول: “انتم ملح الارض ،فاذا فسد الملح فأي شيء يملحه؟ انه لا يصح الاّ لأن يطرح في خارج الدار فيدوسه الناس”.
قد يبدو المشهد للبعض في الموصل وكأن هذا المصير الارهابي يهدد المسيحيين في العراق دون سواهم في حين انها مسألة تؤثر في مستقبل العرب والمسلمين وانظمتهم وثقافتهم ودورهم في العالم ،ذلك ان تهميش المسيحيين والاعتداء عليهم في مجتمع يغرق بالظلامية والتكفير يمكن ترجمته الى تراجع للديمقراطية والحريات وحقوق الانسان ،فيصيب هذا التراجع المشرق بأكمله.
وربما قد لا تفقه بعض الأنظمة الصامتة وهي في حقيقة الامر تائهة ومتواطئة ولا تعرف ما ينتظرها من مصير انها سيكولوجية مريرة كيف يقبلون ان يبدأ العد العكسي للمسيحيين في المشرق العربي من خلال دعمهم للجماعات التكفيرية بالمال والسلاح وترويجهم لسياسة العنف والتصادم وتعويم الشقاق ونشر الفتنة ،ان زوال المسيحيين في العراق والمشرق هو خسارة للعرب والمسلمين على اعتبار ان الوجود المسيحي في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق هو اساس المسيحية ورمز التعددية والاستمرارية ،فالمسيحيون العرب هم حاجة عربية والاسلامية على حد سواء ،وهم يعيشون في وسط المسلمين منذ 1400 سنة،وسيظلون مواطنوا الدول العربية يشاركون في نضالها في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان ويدفعون ارواحهم وممتلكاتهم في سبيل القضايا الوطنية.
وحتى لا يبقى حال المسيحيين في العراق بين مطرقة غرب تقوده الولايات المتحدة وسندان شرق تهدده (داعش) لا بد من تحديد الخطوات المناسبة للخروج من هذا المأزق التكفيري ، واولى هذه الخطوات هو تعزيز الحوار الذي يقوم على مزج الديمقراطية بالأفكار النيّرة للديانتين الاسلامية والمسيحية ،ومعالجة القضايا المشتركة كمسائل الوضع الوضع الاقتصادي والمعيشي وحقوق الانسان والحريات العامة والتشديد على القيم الحضارية المشتركة والمشاركة السياسية الصحيحة،الامر الذي يؤسس الى قيام نهضة عربية واسلامية جديدة للقرن الحادي والعشرين والى نشر فلسفة الدولة الحديثة القائمة على المساواة والعدل ،واحترام كرامة المواطن ،وتأمين كل السبل اللازمة التعبير عن رأيه ومعتقداته ،والحفاظ على مقدساته ومؤسساته الخاصة .
أما السؤال عن الموقف الاسلامي الحازم فيظل مشروعاً … ومن حقنا أن نسأل عن دور المشايخ والائمة وعلماء الدين والأوقاف من هذه الأفعال المشينة، ولماذا لا يتصدى “أهل الحل والعقد” إلى هذه الممارسات الارهابية والفتاوى التكفيرية ، لماذا لم يقل لنا أحدٌ شيئاً عن جواز فرض الجزية على مواطنين عراقيين ونحن على ابواب القرن الحادي والعشرين… لماذا لم ينبر العلماء لتجديد الخطاب الديني والدفاع عن صورة الاسلام الحقيقية في هذه الميادين والمجالات؟ لماذا لا يواجه المخطط الظلامي لهدم ثقافة وحضارة العرب والمسلمين، بمعاول صنعت على مدى قرون عدة من الزمان وها هى تخرج من التاريخ السحيق إلى الحاضر، لتعلن موت أمم وشعوب قامت على أرضها حضارات عريقة، وساهمت فى بناء الحضارة الإنسانية الشاملة؟
ما يجري في الموصل وسهل نينوى، جريمة كبرى، تجري بصمت متواطئ من قبل أطراف عديدة، وفي ظل عجز وتقصير شمل المساجد والكنائس ، رجال الدين المسلمين والمسيحيين، ، وبعد ذلك يسألونك عن أسباب هجرة المسيحيين، وفراغ المنطقة من بقاياهم، وهم المكون المؤسس والتاريخي لدولنا ومجتمعاتنا.
إن المطلوب من المسيحيين والمسلمين معاً، أن يتحلوا بالشجاعة اللازمة للإبقاء على قدر من الوعي الكبير والتفكير السليم ومواجهة الحقائق ومعرفة العدو من الصديق. ومطلوب من المسلمين فوق ذلك وقبل كل شيء، موقف شهم شجاع في لحظة زمن، يسجل فيها التاريخ حروفه بمداد لن يمحى في ظل هذه الهجمة التكفيرية على المنطقة التي لن يسلم من شظاياها احد.