وانتشر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) كالنار في الهشيم، ومعه انهالت علينا تنظيرات المحللين العرب المبنية على نظرية المؤامرة، لدعم توجهاتهم السياسية ضد هذا الطرف الإقليمي أو ذاك. وكعادتهم، حيث أن أشهر هؤلاء المحللين يتبعون لدول تملك المال والإعلام وتستخدمهما لـ”إعلاء شأن” محلليها وتراكم نظرياتهم “الخنفشارية” في عقول العامة، تحولت هذه التحليلات في عقول الناس إلى حقائق يعتمدون عليها وكأنها معادلات رياضية مثبتة لا شك فيها.
وكي لا أقع في فخ هؤلاء المحللين الجهابذة أصحاب الأجندات الخاصة، سأقارب الموضوع بطريقة مبنية على علم المقارنة، علني أستطيع أن أحرك بعض من العقول “المسحورة” بنظريات المؤامرة. وعليه، وحيث أن “داعش” هو تنظيم “متطرف” بطروحاته العقائدية، أستطيع أن أقارب حالته بحالة انتشرت في الهند الصينية، وتحديداً في كمبوديا، في الربع الأخير من القرن الماضي؛ حالة “الخمير الحمر”.
كان الخمير الحمر عبارة عن تحالف للأحزاب الشيوعية الكمبودية التي أعلنت الثورة الشيوعية على النظام الملكي الكمبودي. آنذاك، وفي ظل صراع فييتنام الشمالية الشيوعية الجارة لكمبوديا مع الغرب، وحيث أن النظام الملكي الكمبودي كان مدعوماً كذلك من الغرب، دعمت فييتنام الشمالية الثوار الشيوعيين الكمبوديين، علماً أن فييتنام الشمالية كانت مدعومة بالكامل من الاتحاد السوفياتي. وفي العام 1970، قام الجيش الكمبودي بانقلاب عسكري أطاح بالأمير الكمبودي سيهانوك، فما كان من الأمير المخلوع إلا أن التمس دعم الخمير الحمر، أعداء الأمس الشيوعيون!!!
وفي العام 1975، سيطر حزب الخمير الحمر على كامل كمبوديا. وخلال حكمه الذي قارب الأربع سنوات، كان هذا الحزب الحاكم مسؤولاً عن موت ما يقارب 3 ملايين كمبودي، ليس من خلال الحرب، بل عن طريق الإعدام والتعذيب والأشغال الشاقة. وقد قام زعيم الخمير الحمر “بول بوت” بتطبيق نوع راديكالي ووحشي متشدد من الشيوعية الزراعية، حيث بنى كامل المجتمع على نوع من الهندسة الاجتماعية تجبرهم على العمل في مجتمعات زراعية أو في أشغال شاقة. وقام الخمير الحمر بإخراج الملايين من منازلهم وحددوا لباس الشعب الموحد وكيف على الناس أن يتصرفوا ومع من يستطيع الفرد أن يتكلم، وغيرها من أساليب القمع الإنساني. وقام الخمير الحمر بقتل وإبادة جميع المثقفين وقتل سكان المدن والأقليات الإثنية، وحتى أعضاء وقيادات من حزبهم؛ حيث تم إعدام كل من حامت الشكوك حوله بأنه “رأسمالي” أو طبيب أو مهندس أو جامعي… إعتبروهم من “رواسب” الثقافة الغربية الاستعمارية. واعتبر الخمير الحمر أن جميع الأهل (وأقصد جميعهم) هم من الملوثين بجرثومة الرأسماليه، وعليه، قام الحزب بفصل الأولاد عن أهاليهم (من عمر 3 سنوات وما فوق) ودربوا الأولاد والبنات من عمر 9 سنوات وما فوق على القتل والتعذيب، حيث قام هؤلاء الأولاد بتعذيب أهاليهم وقتلهم، واعتبرهم الخمير الحمر “الأداة التنفيذية للحزب” بحيث كانوا قادة التعذيب وحملات الإعدام الجماعي، تحت شعار الحزب الشهير الموجه للأهالي والمثقفين (إي إلى كل من هو ليس في الحزب): “الإبقاء عليكم لا فائدة منه، وتدميركم لا خسارة فيه”.
وكانت النتيجة إبادات جماعية وإجرام غير مسبوق تقشعر له الأبدان، وهجرة جماعية إلى فييتنام هروباً من بطش الخمير الحمر. وتدهورت العلاقات بين كمبوديا وفييتنام التي أصبحت موحدة بعد انتصارها على الولايات المتحدة الأميركية. وهنا استغلت الصين هذا العداء الجديد ودعمت الخمير الحمر بوجه فييتنام، حليفة الاتحاد السوفياتي غريم الصين (حيث كانت علاقة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم بالحزب الشيوعي السوفياتي علاقة عداء، شبيهة بعلاقة البعث العراقي بالبعث السوري). وقام “بول بوت” مدعوماً من الصين بالهجوم على بعض القرى الفييتنامية الحدودية وعاث فيها قتلاً ونهباً وتخريباً. عندها اجتاح الجيش الفييتنامي كمبوديا وطرد الخمير الحمر من العاصمة ونصب حكومة شيوعية غير متطرفة وموالية له. فتحالف الخمير الحمر المدعومين من الصين مع المعارضة الجمهورية والمعارضة الملكية المدعومتين من الولايات المتحدة؛ وكان أقوى الثلاثة حزب الخمير الحمر. لكن المعارضة خسرت، فانسحب الخمير الحمر إلى أدغال كمبوديا الغربية المحاذية لتايلاند، ودعمتهم تايلاند “الملكية” المدعومة من الغرب، حيث كانت لهم قواعد تدريب في تايلاند بإشراف وإدارة القوات المسلحة الملكية التايلاندية. رغم كل ذلك، كان مندوب كمبوديا المعترف به رسمياً من الأمم المتحدة هو ممثل الخمير الحمر، وذلك حتى العام 1993، أي بعد سقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي؛ علماً أن حوالي نصف قرن من الحرب الباردة كانت بين الغرب والشيوعية، حيث كان يمثل حزب الخمير الحمر أكثر الأحزاب الشيوعية تطرفاً وإجراماً!!!
وهنا نصل إلى بيت القصيد. إبان الحرب الباردة، دعمت الولايات المتحدة والحلف الأطلسي المجاهدين الأفغان بوجه النظام الشيوعي الأفغاني والاتحاد السوفياتي. وكي تعطي بعداً دينياً لدعمها، استخدمت المملكة العربية السعودية وباكستان كواجهة ثقافية ودينية لهذا الدعم. وخلال قتال المجاهدين الجيش السوفياتي، كانوا يرسلون أولادهم إلى باكستان للأمان. في هذه الأثناء، وعلى مدى ما يقارب العقد من الزمن، كان المجاهدون يقاتلون في أفغانستان وأولادهم في حمى باكستان. وقامت المملكة العربية السعودية بإنشاء مدارس دينية على المذهب الوهّابي لتعليم هؤلاء الأولاد بإشراف الاستخبارات العسكرية الباكستانية. وبدورها، وبتمويل سعودي، قامت الاستخبارات العسكرية الباكستانية بتدريب هؤلاء الأولاد على القتال. وبهذا التعاون السعودي-الباكستاني الثقافي العسكري، شب جيل من الشباب الأفغاني الوهّابي الذي اعتبر نفسه أسمى من القبلية والعشائرية والعائلية، فكان جيلاً متشدداً منسلخاً عن البيئة القبلية والعائلية الأفغانية، ومنتمياً إلى المجموعة تحت إشراف كل من السعودية وباكستان. وانتصر المجاهدين على السوفيات، وانسحب السوفيات من أفغانستان، وانتشى الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة بهذا الانتصار وتركوا أفغانستان تلملم جروحها وحيدة. فما كان من الميليشيات القبلية والمناطقية للمجاهدين إلا أن خاضت حرباً أهلية ضد بعضهم البعض. عندها اجتاح هؤلاء الطلاب (طالبان) 90% من أفغانستان، آكلين الأخضر واليابس ومجهزين بأحسن العتاد الحربي والتدريب المتطور والعقيدة المتشددة. لم يعترف بدولة طالبان إلا ثلاث دول، باكستان والسعودية والإمارات. ومن رحم طالبان ولدت “القاعدة”، ومن “القاعدة” انبثقت “جبهة النصرة” و”داعش”. ومن “القاعدة” أتى إرهابيي 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، وتم اجتياح أفغانستان، وتبعه اجتياح العراق وحل جيشه… هل وصلت الفكرة، أم لا تزال رواسب التحزب الأعمى والمذهبية الغبية تعمي الأبصار؟
وكالعادة، تقوم السياسة الخارجية الأميركية على المعالجة الموضعية للمشاكل التي تنشأ نتيجة لعلاجاتها الموضعية للمشاكل السابقة، في سلسلة من التفجيرات المترابطة التي تدفع ثمنها شعوب الجنوب (ما يسمى خطأ بالعالم الثالث). وها هي تستخدم البديل الجغرافي لباكستان في سوريا، تركيا؛ مع المحافظة على الحليف الذي يمثل الواجهة الثقافية للصراع، وأعني به السعودية ودول مجلس التعاون. وكعادتها في مقارعة خصومها، حولت الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الحراك المطلبي للشعب السوري إلى صراع دموي دمر الحجر والبشر؛ بعد أن قامت هي نفسها بتدمير حجر وبشر العراق. وكما حصل في أفغانستان، ازدهرت هذه الحركات المتطرفة المدعومة من الأنظمة الوهابية والمطامع التركية التاريخية في سوريا، لتجعل من المشرق إحدى امتداداتها اللوجستية. أما “التفلسف” بأن “داعش” مدعومة من إيران أو سوريا، فهو تحليل يشبه أصحابه في السطحية والزبائنية. إن العراق وحكامها يمثلون المعبر الاستراتيجي للتحالف الإيراني-السوري بوجه التحالف الخليجي-التركي، فكيف نبرر إيجاد تنظيم عسكري معادي للحكام العراقيين المتحالفين مع إيران وسوريا على الحدود السورية-العراقية مما يشكل حاجزاً لتدفق الدعم اللوجستي لسوريا؟ أما عن صراع المنظمات التكفيرية في سوريا، فهي لا تعني أن هذا التنظيم يتبع للنظام السوري أو ذاك أداة بيد الدولة السورية. هل نسيتم الحرب الأهلية اللبنانية؟ هل المعارك الطاحنة التي حصلت بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي تعني أن أمل كانت أداة للجبهة اللبنانية أو القوات اللبنانية أم أن الحزب الاشتراكي كان مؤامرة قواتية بوجه أمل؟ وهل المعارك بين حزب الوطنيين الأحرار والقوات اللبنانية تعني أن أحدهما كان أداة بيد الحركة الوطنية بوجه الآخر؟ أم أن هناك في تحليلاتكم “العبقرية” أولاد ست وأولاد جارية؟ إنها النظرية الأولى في مقدمة علم السياسة أيها “الجهابذة”، بوجود سلطتين على أرض سياسية واحدة، لا بد أن يحصل الصدام؛ ونقطة على السطر. أما المضحك-المبكي، فهو استمراركم في استخدام تعبير “الجيش السوري الحر”. ففي إعلام المعارضة نفسها، وعندما تعرضها التلفزيونات المعادية للنظام السوري مستخدمة تعبير الجيش السوري الحر، لا نرى إلا أعلام وشعارات شيء اسمه “الجبهة الإسلامية”؛ وذلك في بلد كلبنان، شعبه مكون من خليط طائفي يعكس تاريخ وحضارة المشرق.
وقبل الختام، لا يسعني إلا أن أتطرق إلى موضوع أثارني، وهو السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الوسط. وما لفت نظري، أن أحد أهم العقول السياسية والفلسفية والأكاديمية التي أحترم وأقدر، حيث أنه كان أستاذي، وافق على تحليلات معظم المفكرين الأميركيين بأن السياسة الخارجية للرئيس أوباما هي سياسة فاشلة، وخصوصاً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هنا نعود إلى أسس السياسة الخارجية الأميركية في منطقتنا. لا يختلف إثنان أن الأولوية في السياسة الخارجية الأميركية هي إسرائيل، وبعدها بعدة درجات تأتي مصالحها مع دول مجلس التعاون. أما البرنامج النووي الإيراني، فهو برنامج سلمي بإمتياز، فقد حرم الولي الفقيه أي استخدام عسكري للتكنولوجيا النووية. ولكن، بغض النظر عن رأيي هذا، لننظر إلى حالنا. مصر ما زالت تتخبط بأمنها واقتصادها، ليبيا تحرقها النيران، السودان تقسمت وتئن تحت وطأة الحروب، اليمن تجتاحها الحرب الأهلية، تونس في صراع اجتماعي وسياسي، العراق في جهنم، سوريا تحت نير القتل والذبح والتنكيل، ولبنان والأردن على كف عفريت. وها هي إيران ترسل قوات عسكرية لدعم العراق في مواجهة الإرهاب “الداعشي”، والدعم لسوريا في مواجهة كل الإرهاب الموجود على وجه الكرة الأرضية، وها هي معظم الدول الخليجية تدعم المقاتلين التكفيريين في العراق وسوريا، وحتى بعضها ما زال يدعم الإخوان في مصر، وها هي أميركا تريد الاتفاق مع إيران من دون الاستغناء عن حلفها الثابت مع دول مجلس التعاون. باختصار، هناك صراعات في جميع الدول العربية، إما صراعات مذهبية أو دينية أو إثنية أو أيدولوجية؛ وكل من يقاتل في هذه الحروب هم الدول الإقليمية، فلا وجود للعسكر الأميركي فيها، أليس كذلك؟ لو اتخذ أوباما قراراً باستخدام القوة العسكرية الأميركية لضرب “داعش”، عندها كنت وافقت هؤلاء المفكرين بأن سياسته الخارجية فاشلة، ولكن بعدم الانخراط المباشر للعسكر الأميركي، وخوض الولايات المتحدة لمعاركها بالوكالة من قبل القوى الإقليمية، هي قمة الدهاء للسياسة الخارجية الأميركية؛ ولا تنسوا وجود آلاف القوات الأممية على الحدود اللبنانية الجنوبية كضمانة بوجه المقاومة في لبنان. وفي خضم كل هذه القلاقل والحروب والمصائب، إختفى الصراع العربي-الإسرائيلي، واستعضنا عنه بالصراع السني-الشيعي، والمسلم-المسيحي، والعربي-العجمي، إلخ. ألم تلاحظوا كذلك أنه في خضم كل هذه الأزمات الاقتصادية التي تصيبنا جميعاً، فإن إقتصادات دول مجلس التعاون لا تزال بألف خير؟ لا تنسوا أنهم الوحيدين بعد إسرائيل، من يمثلون التحالف الثابت والدائم للولايات المتحدة في المنطقة.
وفي الختام، إلى أولئك الذين يقيسون سياسة الخارجية الأميركية بمصالحهم “اللبنانية”، هناك طريقة وحيدة قد تجعل الولايات المتحدة تتراجع عن مد الجسور مع إيران، ألا وهي طرد قوات الأمم المتحدة من الجنوب، والسماح للمقاومة بتحرير الأرض المتبقية بالقوة، وانتشارهم على كامل حدود لبنان مع الكيان الصهيوني. عندها، ستضرب أميركا اتفاقاتها مع إيران بعرض الحائط، وستدعمكم بقوة لمواجهة 8 آذار والمقاومة “الإرهابية”؛ لأن أولوية، إذا لم تكن أحادية، اهتمامات الولايات المتحدة في منطقتنا هي أمن وسلامة إسرائيل.
هل وصلت الفكرة، أم لا تزال رواسب التحزب الأعمى والمذهبية الغبية تعمي الأبصار؟!