في مؤتمر جنيف الأخير حول أوكرانيا، نحاول إستخلاص الدروس والعبر ومعرفة التوجهات ودور الدول الكبرى في حل الأزمات أو إثارتها ومدى إنعكاس ذلك على منطقتنا العربية، وهذا يكاد يشبه ما كان يجري في القرن التاسع عشر حين كانت مصائر الشعوب تحدد في مؤتمرات دولية.
في المؤتمر، نجحت روسيا بنقل الحديث الدائر حول أزمة القرم الى الإعتراف الغربي بحق روسيا في فرض خياراتها السياسية وهذا يعني أن روسيا صاعدة وهي تفرض ما تريد وما تراه مناسباً لتوجهاتها ومصالحها وهو ما يعزز دورها العالمي، وفي المؤتمر أيضاً، بدت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما كمن يحاول أن يرفع عن كاهله مشقة تشديد العقوبات على روسيا، وهذا ما تمّ قراءته، بأن واشنطن تأمل في أن يؤدي المناخ الإيجابي في المؤتمر الى الإنفراج على جبهات أخرى مثل سوريا وإيران وأفغانستان، وخلاصة المؤتمر كما يبدو هي، أن دول الغرب وروسيا يفترضان أنهما ندان في الأزمة الأوكرانية وأن نفوذهما متوازيان فيها، وعليه كل طرف يدعم جهة ويتحمل مسؤولية عدم تأزيم الأمور، ويضاف الى ذلك، أن الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة امتلكا مرونة معينة في معالجتهما للأزمة الأوكرانية وأساسها أنهما شركاء في إدارة الأزمة وهذا أمر طبيعي طالما هم من أشعل فتيلها، وبذلك أصبحت مسائل مثل اللامركزية والحكومة المتوازنة والسياسة اللغوية الحكومية في أوكرانيا مدار نقاش في مؤتمرات دولية. وهذا يؤدي الى خلاصة تقول، إن الإتكال على الغرب في حل مشاكل أوكرانيا مع روسيا يؤدي لا محالة الى هكذا مؤتمرات!.
الأمر الأهم يتمثل في إستخلاص الدروس الهامة من آلية تعاطي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع التطورات الأوكرانية والموقف الغربي، إستطاع بوتين إتخاذ الخطوات المناسبة في الوقت المناسب من غير التراجع أمام الدول الغربية التي ساعدت الميليشيات الأوكرانية ومن يدعمها من المتأثرين بالثقافة الغربية على إسقاط حكومة كييف، ولم يكن أحد يتصور السرعة التي بادرت فيها موسكو الى ضم جزيرة القرم الى روسيا… أدرك بوتين، أن خسارة القرم تعني إبعاد موسكو عن المياه الدولية وهو كان يعلم أن عيون الأقليات الروسية في دول آسيا الوسطى كانت تراقب كيفية مقاربة الروس مشكلات الأوكرانيين، وهذا ما أظهر تماسك النظام الروسي ونفوذه في مناطق واسعة أمام الإصطفاف الغربي في تلك المناطق.
وظهر جلياً أبرز سمات العلاقات الدولية اليوم، وهي أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على المبادرة في القضايا التي تحمل مجازفة ومخاطرة، ويضاف الى ذلك، أن الإقتصاد الأميركي في وضع لا يحسد عليه، وتبدو أميركا عاجزة عن تسويق رؤوس أموالها الكبيرة، ومن هنا أدرك منافسو الولايات المتحدة مدى قوتهم وأملوا في إمكان منازلة الأميركيين والإنتصار عليهم، وأيقن بوتين أن التهديدات الأميركية لا تحمل محمل الجد، وأن قدرة واشنطن أضعف مما تلوح به وهي قد خسرت مكانتها السابقة ولم يعد في وسعها الدخول في مواجهة عسكرية جديدة، وهذا يعني أن حسابات بوتين كانت في محلها فأخذ الموقف المناسب، وتبدو واشنطن اليوم وقد فقدت القدرة على بسط نفوذها وهي تعيش على أنغام قوتها الآفلة..!