كثر الجدل في هذه الأيام عن المقاومة وسيادة الدولة والمعادلة الذهبية مقابل المعادلة الخشبية والدستور اللبناني ومقام رئاسة الجمهورية وغيرها من المواضيع التي قد تنسف البيان الوزاري فتنسف معها الحكومة. ومن هذا المنطلق، سأقوم بشرح مستفيض لجميع هذه المواضيع من منطلق علمي ومنطقي، علماً إنني من المدرسة الواقعية التي لا تؤمن بالموضوعية في الشؤون الاجتماعية لأنها مرتبطة بآراء وأهواء البشر. ولكن، المقاربة العلمية المبنية على المنطق تعكس مبرراً لآراء الفرد. وأنا على يقين بأن مقاربتي هذه لن يقابلها دفاع علمي ومنطقي لأنني، وبكل تواضع، لم أسمع سياسي واحد أو حزبي واحد من 8 أو 14 آذار لديه الخلفية العلمية الكافية ليدحض مقارباتي من دون الاعتماد على تحزبية ومذهبية ومناطقية وعشائرية مناصريه.
يطالب البعض بسيادة الدولة على المقاومة، أي أن تكون المقاومة تحت سلطة الجيش اللبناني. وكي يتخطى بعض هؤلاء نظرية أمن المقاومة، إقترحوا بقاء أسلحتها سرية على أن لا تستخدمها إلا بإمرة الجيش اللبناني. هذا كلام جميل ومنطقي وعلمي. ولكن، غاب عن بالهم أن لبنان ليس دولة عسكرية ولا دولة كلية أو سلطوية بل دولة ديموقراطية، أي أن الجيش هو بإمرة السلطة السياسية المنتخبة من الشعب اللبناني الذي هو مصدر السلطات وصاحب السيادة. وعليه، فإن أي عملية عسكرية تقوم بها المقاومة رداً على أي عدوان إسرائيلي في ظل هذا المنطق، هي عملية بمباركة الجيش اللبناني والسلطة السياسية المستمدة من قرار الشعب اللبناني؛ أي تكون هذه العملية آنذاك بمثابة إعلان حرب على إسرائيل. وهذا يكلف لبنان الكثير من الويلات ويبرر للعدو قصف ثكنات الجيش والمطارات العسكرية والسراي الحكومي والقصر الجمهوري، ناهيكم عن نسف اتفاق الهدنة وهو الورقة القانونية الدولية الوحيدة التي وقعت عليها إسرائيل معترفة بالحدود اللبنانية الشرعية (10452 كلم مربع). أي الورقة الشرعية الوحيدة التي تمنع إسرائيل وحلفائها الدوليين من اعتبار الخط الأزرق كحدود شرعية، علماً أن الخط الأزرق يقضم كيلومترات من الأراضي اللبنانية.
كما أن البعض يصرح بأن سلاح المقاومة هو سلاح يقوض مبدأ الدولة حيث أن قيام الدولة يكون على مبدأ “إحتكار الدولة لوسائل العنف”، وهذا كلام جميل وعلمي حتى النخاع. ولكن، لنستعرض القرارات التي اتخذتها الدولة بهذا الخصوص. إن الدولة اللبنانية في حالة حرب منذ العام 1975، حيث أن عناصر وضباط الجيش اللبناني يتقاضون رواتب مع فروقات “حالة الحرب” وتتم الترقيات العسكرية وإعطاء الأوسمة تحت هذه المظلة أيضاً. وحالة الحرب ليست لأسباب داخلية، فمنذ العام 1992 حتى العام 2005 أو من العام 2000 حتى العام 2005 (للمصرين على أن التحرير حصل في العام 2000)، لم تكن الحالة الأمنية الداخلية تستدعي البقاء على جهوزية “حالة الحرب” لدى القوات المسلحة اللبنانية. كما أن قيادة الجيش تستقبل الشخصيات الرسمية والوفود الدبلوماسية بلباس القتال (Fatigue) وتجتمع بفخامة رئيس الجمهورية في القصر الجمهوري وباللجان النيابية في مجلس النواب وباللجان الوزارية في السراي الحكومي وهي بلباس القتال، وهذا يناقض البروتوكول الذي يلزم ضباط الجيش إرتداء اللباس الرسمي في هذه المناسبات. ولكن، فقط في “حالة الحرب” يحق لضباط الجيش ارتداء البذلة القتالية في جميع المناسبات. وعليه، وحيث أن لبنان لا يعادي أي دولة في العالم إلا إسرائيل، يعني هذا أن لبنان في حالة جهوزية طوارئ الحرب مع إسرائيل، وهذا كذلك ما يؤكده القرار الأممي 1701 الذي يتغنى به هؤلاء المطالبين بسلاح المقاومة. إذن، فإن الدولة اللبنانية في حالة طوارئ بمواجهة الاعتداءات المستمرة للعدو الإسرائيلي، وإلا فعلى الدولة إلغاء “حالة الحرب” وتبرير اعتمادها هذه الحالة لعقود من الزمن مما ترتب على الشعب اللبناني ملايين من الدولارات تم صرفها كبدلات وتعويضات مالية لضباط الجيش. وحيث أن “حالة الحرب” ما زالت قائمة، وحيث أن للبنان قرارات دولية متعلقة بالممارسات العدائية على السيادة اللبنانية واحتلال أجزاء من أرض الوطن من قبل العدو لا زالت معلقة، وبوجود آلاف الجنود الأمميين على الحدود مع العدو نتيجة لهذه الأعمال العدائية، تصبح المقاومة حق شعبي لبناني يكفله الدستور من خلال البند “ب” من مقدمة الدستور: “لبنان بلد عربي الهوية والانتماء وهو عضو مؤسس في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها…” حيث أن البند الرابع من المادة الثانية المعنونة “الأسس والمبادئ” في ميثاق جامعة الدول العربية ينص: “للشعوب كافة الحق في مقاومة الاحتلال الأجنبي”. أما في ميثاق منظمة الأمم المتحدة، فالبند الأول من قرار الجمعية العامة رقم 3103 (الدورة 28) بتاريخ 12 كانون الأول 1973 ينص: “إن نضال الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية والأنظمة العنصرية في سبيل تحقيق حقها في تقرير المصير والاستقلال، هو نضال شرعي، ويتفق تماماً مع مبادئ القانون الدولي”. كما ينص البند الرابع من نفس القرار على التالي: “إن المحاربين المناضلين ضد السيطرة الاستعمارية والأجنبية والأنظمة العنصرية، الذين وقعوا في الأسر، يجب أن يمنحوا وضع أسرى الحرب، وأن يعاملوا وفق أحكام اتفاقية جنيف الخاصة بمعاملة أسرى الحرب تاريخ 12 آب 1949”. أما موضوع سلاح المقاومة الذي أعلنت أنها لن تتخلى عنه حتى تحرير فلسطين، فهو كذلك يتسق مع البند الدستوري أعلاه، حيث ينص البند الثالث من نفس المادة من ميثاق جامعة الدول العربية (المادة الثانية) على التالي: “إن أشكال العنصرية والصهيونية والاحتلال والسيطرة الأجنبية كافة هي تحدّ للكرامة الإنسانية وعائق أساسي يحول دون الحقوق الأساسية للشعوب ومن الواجب إدانة جميع ممارساتها والعمل على إزالتها” (إنتبهوا إلى تعبير: العمل على إزالتها). كما أن إسرائيل تمثل بامتياز نظاماً عنصرياً يصبو اليوم، في مطلع القرن الحادي والعشرين، إلى تهويد فلسطين بعد أن قام بصهينتها، وهذا ما يتسق مع تعبير “الأنظمة العنصرية” المكرر ذكره في القرار الأممي أعلاه.
ونصل الآن إلى من يطالب بسلاح المقاومة لأنه سلاح طائفي، وهذا أيضاً كلام منطقي وجميل. ولكن هل نسينا المقاومة المسيحية؟ ألم تكن لبنانية؟ أليست المقاومة انعكاساً لإرادة الشعب؟ أوليس مجتمعنا مجتمعاً طائفياً؟ فإذا كانت المقاومة الشعبية لا تعكس طبيعة المجتمع الشعبي، إذن فهي ليست مقاومة تمثل الشعب، بل تمثل نفسها. علماً أن فرنسا العلمانية بامتياز، كان شعار مقاومتها الديغولية ضد الاحتلال الألماني هو “الصليب البطريركي” (Patriarchal Cross)، فهل كانت تلك المقاومة دينية غير فرنسية؟ وهل رفض الشيوعيون الفرنسيون المشاركة بعمليات المقاومة تحت مظلة هذا الصليب؟ وهل رفض “الحرس القديم” الفكري والسياسي للثورة الفرنسية والمتشدد علمانياً المشاركة بالمقاومة تحت مظلة نفس الصليب؟ بل بالعكس، تبنوا هذا الشعار واستشرسوا بالمقاومة ولم يتحججوا بالرمزية الدينية للمقاومة ويهاجموها.
أما أولئك الذين يتهمون المقاومة بالتبعية للخارج جراء تحالفها العسكري والمالي مع الخارج، فلا تستطيع إلا أن تتفهم وجهة نظرهم. ولكن، هل توجد مقاومة في العالم لم تتلقى الدعم الخارجي؟ وهل نسينا تلقي المقاومة المسيحية في لبنان الدعم العسكري والسياسي من جهة والدعم المالي من جهات أخرى؟ فهل كانت غير لبنانية؟ أنا شخصياً أرفض اتهام أي فريق لبناني بالعمالة أبان الحرب الأهلية، إلا أولئك الذين خرقوا القانون باستمرار انخراطهم بالحرب الأهلية بعد انتهائها، ولكن اتهامي هو جنائي وليس سياسي. أما اتهام المقاومة بالتبعية، فهو اتهام غير علمي بتاتاً. إن الدول التي تدعم ودعمت المقاومات الشعبية على مر التاريخ، كانت وما زالت تدعمها ليس حباً بالشعوب المقاومة بل لخدمة مصالحها. كما تقوم هذه المقاومات بقبول الدعم والتحالف مع الدول ليس محبة بهذه الدول، بل لخدمة أهدافها في التحرير. وهذا يسمى بعلم السياسة: تقاطع المصالح. ألم يتحالف الجنرال ديغول مع بريطانيا والحلفاء لمقاومة الاحتلال النازي لبلاده؟ أكان عميلاً إنكليزياً؟ وهل ننسى العداء التاريخي بين فرنسا وبريطانيا على الصعد السياسية والشعبية والثقافية والعسكرية؟ هل ننسى “تقديس” جان دارك رغم تلوث يديها بالدماء الإنكليزية المسيحية؟ علماً أن المقاومة الفرنسية استخدمت الطائرات الحربية الإنكليزية لقصف الأرض الفرنسية ضد الألمان والدولة الفرنسية بما فيها الجيش والدرك الفرنسيين المتعاونين مع الألمان من حكومة “فيشي”. كما استخدمت الجيش البريطاني لاستعادة المستعمرات الفرنسية من قبضة “الحكومة الفرنسية” و”الجيش الفرنسي” التابع لحكومة فيشي برئاسة بطل فرنسا في الحرب العالمية الأولى الجنرال بيتان. فباتهامكم المقاومة في لبنان بالتبعية، تتهمون ضمناً الجنرال ديغول والمقاومة الفرنسية بالتبعية لبريطانيا. وماذا عن المقاومتين الكوبية والفييتنامية اللتين اعتمدتا على الدعم السوفياتي؟ هل كانتا تابعتين للاتحاد السوفياتي؟ وإذا قلتم نعم، فلماذا لم يسقط نظامهما السياسي المنبثق من مقاومتهما عند سقوط الاتحاد السوفياتي؟ فالتابع يسقط بسقوط سيده، أليس كذلك؟ وعلينا أن لا ننسى الدعم الأميركي اللامحدود للحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ في مقاومة الاحتلال الياباني، والضغط الكبير الذي مارسته الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها بريطانيا في جعل الصين الشعبية عضو دائم في مجلس الأمن الدولي ومكتسبات هذه العضوية بما فيها حق النقض. فهل كان ماو تسي تونغ عميلاً أميركياً أم كانت المقاومة الصينية للاحتلال الإمبراطوري الياباني تابعة للأميركيين؟
والآن نصل إلى حجة البعض بأن المقاومة لم تعد تحظى بالإجماع الوطني. أولاً منطق الإجماع هو منطق غير ديموقراطي بتاتاً. إن الإجماع ينقض الانتخاب وينقض حق الاختلاف الديموقراطي. أما الإجماع على المقاومة، فهي نظرية فريدة من نوعها لم تحصل أبداً في تاريخ البشرية. فهل كان هناك إجماعاً وطنياً فرنسياً على المقاومة الفرنسية أم كان أكثر من نصف الشعب الفرنسي يعيش بهدوء في كنف حكومة “فيشي” المتحالفة مع النازية؟ وهل كان هناك إجماع وطني على المقاومة الفييتنامية أم كان نصف الشعب الفييتنامي متعاوناً مع المحتل الأميركي بما فيها حكومة وجيش هانوي؟ والأمثلة بالمئات.
أما بخصوص من اعتبر أن أحداث 7 أيار و11 أيار من العام 2008 في بيروت والجبل، قد أسقطت شرعية سلاح المقاومة لأنه توجه إلى الداخل بوجه الخصم السياسي اللبناني، فهو اعتبار لا يخلو من المنطق والتبرير العلمي. وبرغم معارضتي الشخصية والعاطفية لهذه الأحداث التي ساهمت في تعميق الشرخ المذهبي بين اللبنانيين وتأثرت بها نتيجة لانتمائي المناطقي وهويتي المذهبية التي كرسها الدستور اللبناني، ولكن الحقائق تشير إلى العديد من التداخلات التي تنفي هذا الادعاء. أولاً، كان حزب الله وحلفائه قد خرجوا من الحكومة واعتبروها غير دستورية، واستمروا باعتصامهم السلمي في وسط بيروت لمدة ناهزت السنة ونصف السنة ولم يلجأ أحد منهم إلى وسائل العنف. ولكن عندما اتخذت الحكومة التي لا يعترفون بها قرارات اعتبرتها المقاومة تشكل خطراً على أمنها العسكري من خلال المس بسلاحها اللوجستي المتمثل بشبكة الاتصالات، لجأت إلى القوة للدفاع عن وجودها العسكري كقوة تقاتل العدو. ثانياً، لم تستخدم في قتالها أي من سلاحها “المقاوم”، وأقصد به الصواريخ المباشرة والمتوسطة المدى والبعيدة المدى ومدفعية الميدان والآليات المصفحة، بل استخدمت السلاح الحربي الفردي والمتوسط؛ أي السلاح الذي تملكه معظم القوى السياسية اللبنانية حيث شاهدناه في قصقص والطريق الجديدة والناعمة يوم اغتيال الشهيد وسام الحسن، وفي عبرا مع أحمد الأسير، ونراه الآن في باب التبانة وعرسال وغيرها من المناطق. ثالثاً، ورغم الجرح الذي لم يندمل في الجبل والذي التهب في بيروت من جراء هذا الهجوم، ولكن هذه المعارك تمثل نقطة في بحر ما فعلته جميع “المقاومات” المنتصرة بخصومها الوطنيين، بدءً بالمقاومة الفرنسية مروراً بالمقاومة الصينية والكوبية وصولاً إلى المقاومة الفييتنامية. إن تصرف المقاومة الإسلامية في لبنان برهن عن معرفة عميقة بطبيعة التركيبة الاجتماعية والسياسية اللبنانية من خلال تعاطيها الراقي مع حلفاء أعدائهم في الجنوب وتسليم القضية برمتها إلى الدولة اللبنانية رغم الخسائر البشرية التي تكبدوها على أيدي هؤلاء. كما لم يطالبوا بحكم البلاد نتيجة لانتصاراتهم ولم يعملوا على السيطرة على سلطة الدولة كما فعلت جميع “المقاومات” الشعبية المنتصرة على مر التاريخ.
أما بخصوص الثلاثية الذهبية وتلك الخشبية، فهذا كلام خطير أن يصدر عن رأس الدولة. ماذا برأيكم سيشعر القواتيون أو الكتائبيون أو الإشتراكيون لو قيم فخامة الرئيس احتفالاتهم بشهدائهم بأنها تقاليد “خشبية”؟ هناك أرطال من دماء شهداء المقاومة اللبنانيين رووا أرض الجنوب في ظل هذه المعادلة التي لم تعجبني شخصياً وكنت أعتبرها فخ نصبه ثعلب الدبلوماسية اللبنانية وذئب السياسة الداخلية دولة الرئيس فؤاد السنيورة. أما ثلاثية فخامة الرئيس الذهبية، فهي كذلك لا تمت إلى الواقع بصلة، وتناقض رفضه للمقاومة. فإن كنت مصراً يا فخامة الرئيس على كلمة “الشعب”، فيجب إلغاء الأحوال الشخصية الطائفية التي جعلت من اللبنانيين “شعوب” تتناطح. وعن أي قيم مشتركة تتكلم فخامتك؟ عن أولئك الذين يعتبرون السوري والإسرائيلي والفلسطيني أعداءهم بنفس الدرجة؟ أم أولئك الذين يعتبرون أن الآخرين ذراعاً فارسياً في لبنان؟ أم أولئك الذين يعتبرون الآخرين رعايا سعوديين بلباس لبناني؟ أم أولئك الذين يعتبرون أن اليمين المسيحي اللبناني وإسرائيل سواسية؟ أم أولئك الذين يعتبرون شريكهم بالوطن مجرماً يقتل إخوتهم بالدين في سوريا؟ منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان حتى تاريخه، لم أرى قيماً مشتركة لبنانية؛ فهل تتعطف فخامتك وتنورنا بتعريف ماهية “القيم المشتركة”؟ أما الأرض، فكيف تتناول الأرض يا فخامة الرئيس وفخامتك والحكومة والدولة بجميع مؤسساتها تقر أن جزء من “الأرض” ما زال محتلاً من العدو الإسرائيلي. كيف تريدنا فخامتك بأن نتبنى ثلاثيتك الذهبية التي تتوسطها “الأرض”، المحتل منها جزء باعتراف فخامتك، وننكر حق المقاومة الشعبية في تحرير هذه “الأرض”؟
أما اتهام المقاومة بأنها قد أضاعت بوصلتها وتحولت إلى القتال في سوريا، فقد كتبت في نفس الموقع مقال مفصل عن هذا الموضوع بعنوان: “لماذا حزب الله في سوريا”.
ونصل إلى مسك الختام، حيث قام إعلاميو وسياسيو خصوم المقاومة بتحليل ردود فعل داعمي المقاومة على خطاب فخامة الرئيس بجامعة الروح القدس-الكسليك، معتبرين أنها حملة منظمة تريد نسف التوافق الذي ظهر عند تشكيل الحكومة وتريد أن يذهب فخامة الرئيس والوفد الوزاري المرافق إلى مؤتمر باريس وهو ينوء تحت واقع حكومة لم تنل ثقة المجلس النيابي. وهذا لم أستغربه من السياسيين وصحافتهم، ولكن ما أثار استغرابي هو اقتناع بعض من الشعب اللبناني بهذه النظرية الغريبة. لم يقم حزب الله وحلفائه بإثارة أي موضوع، بل بالعكس، فقد خسرت قيادات هذا التحالف الكثير من جماهيريتها من جراء ما اعتبرته هذه الجماهير تنازلاً فاضحاً من أجل تشكيل الحكومة؛ ألم يصرح الشيخ سامي الجميل أن تحالفهم يملك أكثرية المقاعد الحكومية معتبراً أن الهدف الرئيسي بعدم إعطاء حكومة ميقاتي الـ”حزب اللهية” حق تصريف الأعمال واستبدالها بحكومة تصريف أعمال يكون لتحالفهم اليد الطولى بها قد تحقق؟ الذي بدأ بالهجوم هو فخامة الرئيس الذي ألقى خطابه الناري في ظل مشاورات الأطراف المتخالفة على صيغة للبيان الوزاري ترضي جميع الفرقاء. إن خطاب فخامته أعاد مشاورات اللجنة الوزارية لصياغة البيان الوزاري إلى نقطة الصفر، مما أدى إلى ذهابه إلى مؤتمر باريس يرافقه وفد وزاري من حكومة لم تنل الثقة. لماذا ألقى فخامته هذا الخطاب الناري في هذا التوقيت بالذات؟
أما ما أثار حفيظتي فهو هذا الغضب و”يا غيرة الدين” عندما تم الرد على فخامة الرئيس، ذلك بالإضافة إلى اتهام حزب الله بأنه حزب لا يفقه الاختلاف الديموقراطي ويريد إلغاء الرأي الآخر. أما بخصوص الرد، فهو حق ديموقراطي، رغم أن الرد كان على مستوى الخطاب ولم يتضمن اتهاماً جنائياً كالاتهامات المتكررة لفريق 14 آذار لحزب الله. ماذا عن اتهام رئيس حزب القوات اللبنانية حزب الله باغتيال الشهيد اللواء وسام الحسن في اللحظة التي تم فيها الاغتيال؟ ألا يعتبر هذا الاتهام عبارة عن إلغاء الرأي الآخر باتهامه بجريمة جنائية؟ ماذا عن رفض فريق من اللبنانيين الجلوس على نفس الطاولة مع الفريق الآخر، أليس رفض لحق الآخر بالاختلاف؟ ماذا عن الهجومات الشرسة من قبل صقور وحمائم 14 آذار على حزب الله واتهامه بجميع الموبقات، أليس هذا خطاب إلغائي؟
أما أن يتحجج البعض برفضه المس بـ”مقام” رئيس الجمهورية لأنه مس بالحقوق السياسية لأعلى مركز سياسي مسيحي، فهذا ما لا طاقة لنا بتحمله. كيف يحق للزعماء الموارنة المس بـ”مقام” رئيس الحكومة و”مقام” رئيس مجلس النواب وهو مس بالحقوق السياسية لأعلى مركزين سياسيين للطائفتين السنة والشيعية؟ إن جميع هذه “المقامات” هي مراكز سياسية يحددها ويختارها الشعب اللبناني الذي هو وحده مصدر السلطات وصاحب السيادة. فقد أصبحت مقاربة “يا غيرة الدين” وسيلة دنيئة يستخدمها جميع الساسة لمواجهة خصومهم السياسيين. عندما هاجت القوات والكتائب الرئيس ميقاتي، لم نسمع نخوة “سنية” تصيح “يا غيرة الدين” لأن المزاج السني العام كان في المقلب الآخر، ولكن عندما هاجم التيار الوطني الحر الرئيس سعد الحريري، هبت النخوة السنية تصيح “يا غيرة الدين”. وعندما ينتقد التيار الوطني الحر بعض ممارسات حزب الله لا نسمع شيعياً ينتخى لمواجهته، ولكن عندما تهاجم الكتائب أو المستقبل أو القوات حزب الله، نرى أصحاب النخوة الشيعية ينتخون “يا غيرة الدين”. وهكذا دواليك. هل فخامة الرئيس هو إبن الله أم خاتم النبيين؟ إنه منصب سياسي في بلد ديموقراطي يحق للجميع انتقاده ومهاجمته والسخرية منه، فالطبقة السياسية اللبنانية سخرت من الشعب، رب عملها، لعقود من الزمن، ألا يحق لنا التلذذ بخلافاتكم كما تلذذتم لمدى عقود بالمصائب والكوارث التي واجهناها من جراء سياساتكم؟ وأرجو أن لا تتحججوا بالدستور ومواده، فإذا تجسد الدستور في إنسان وقرأ نصوصه، هو نفسه لن يفقه منها شيئاً، فتعديلات العام 1990 جعلت من مواده مضحكة تشريعية تطرح القانون ونقيضه في نفس الصفحة وتحت نفس الفصل.
وإذا كان هناك إصراراً على الدفاع عن البعد الطائفي لـ”مقام” رئيس الجمهورية، فيحق لي انا كذلك أن أعتمد المقاربات الطائفية في التعاطي مع الدولة والسياسيين. وعليه، لا يعنيني فخامة رئيس الجمهورية، فهو ماروني وأنا درزي؛ ولا يعنيني دولة رئيس مجلس النواب، فهو شيعي وأنا درزي؛ ولا يعنيني دولة رئيس مجلس الوزراء فهو سني وأنا درزي. ولا يحق للسني دولة الرئيس سعد الحريري التهجم على وليد جنبلاط الذي يمثل الأكثرية الدرزية و”يا غيرة الدين”؛ ولا يحق لمعالي الوزير بطرس حرب التهجم على وليد جنبلاط أو وئام وهاب أو طلال أرسلان، فهو ماروني وهم دروز و”يا غيرة الدين”؛ وكيف تجرأ أمين سر قوى الرابع عشر من آذار الماروني الدكتور فارس سعيد التهجم على الجيش في مهرجان عكار الذي كان بعنوان “كرامة العمامة”، علماً أن رئيس أركان الجيش هو درزي و”يا غيرة الدين”؟ إن القائد العام للقوات المسلحة اللبنانية هو فخامة رئيس الجمهورية “الماروني”، وقائد الجيش اللبناني هو “ماروني”، علماً أنه لا يوجد مركز قائد الجيش إلا في لبنان. لماذا لا يكون المسؤول الأول في الجيش هو رئيس الأركان أسوة بجميع جيوش العالم وعلى رأسهم أكبر ثلاث جيوش في العالم، الجيش الصيني والجيش الروسي والجيش الأميركي؟ أم لأنه درزي؟ إذن، “يا غيرة الدين”! أيحق لي وأنا المواطن اللبناني أن ألجأ إلى أساليبكم في التعاطي الوطني من منظور “يا غيرة الدين”، أم هناك “أولاد ست وأولاد جارية”؟
فيا فخامة الرئيس، بدأت ثلاثيتك الذهبية بكلمة “الشعب” وختمتها بتعبير “القيم المشتركة” ووسطتها بكلمة “الأرض”. أي شعب تعني فخامتك في ظل هذه العشائر الطائفية التي جعلت من الشعب شعوباً؟ وعن أي أرض تشير فخامتك وأجزاء منها محتلة؟ وعن أي قيم مشتركة تتكلم فخامتك في ظل هذه المقاربات المتعاكسة وهذا التخاطب السياسي المتناقض والمليء بالحقد والكراهية والخبث؟
قلت كلمتي والسلام!!!
**