إن الموقف من المحكمة الدولية في لبنان منقسماً انقساماً حاداً. فهناك فريق لا يعترف بعدالتها ولا بشرعيتها ولا بأهدافها. أما الفريق الآخر، فلا يرى العدالة إلا من خلالها.
إن فريق 8 آذار يشكك بمصداقية هذه المحكمة ويعتبرها أداة غربية يتم استخدامها كإحدى وسائل الحرب على المقاومة ومحورها الإقليمي من خلال اتهامهم بجريمة لها أبعادها الأخلاقية والمذهبية. ويبني هذا الفريق تحليلاته على سابقات ما تسمى بالعدالة الدولية بدءً بالحرب العالمية الثانية وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين. فقد قامت العدالة الدولية بمحاكمة القادة النازيين بجرائم الحرب ولم تتناول قنبلتي هيروشيما وناغازاكي الأميركيتين، وفي الحرب الكورية لم تحاكم الولايات المتحدة على جرائم حرب أدت إلى مقتل أكثر من مليوني كوري على أيديهم وتدمير مدن كورية بكاملها، وفي حرب فييتنام لم تحاكم الولايات المتحدة التي قتلت ما يقارب 4 ملايين فييتنامي بما فيهم الأطفال والنساء والعجز وسوت في الأرض قرى بكاملها بمن فيها، وفي العراق لم تحاكم الولايات المتحدة التي اجتاحته من دون موافقة الأمم المتحدة وقتلت ما يقارب المليون عراقي، وفي أفغانستان لم تحاكم السعودية وباكستان على إنشائهما حركة طالبان ودعمهما لحكومة طالبان رغم كل الانتهاكات لحقوق الإنسان التي افتعلتها هذه الحكومة بحق شعبها عامة وبحق النساء والأطفال خاصة. أما ما يعني منطقتنا، فإن المنظمة الأم التي تنبثق منها المحكمة الدولية هي الأمم المتحدة التي اعترفت بإسرائيل كدولة بعضوية كاملة من دون حدود مرسمة ومعروفة رغم خرقها لجميع القرارات الدولية بدءً بالقرار الدولي المرتبط بتقسيم فلسطين.
أما فريق 14 آذار، فلا يرى العدالة إلا من خلال ما يسميه “المجتمع الدولي” وأداته المتمثلة بالمحكمة الدولية. ويبني هذا الفريق تحليلاته على سابقات ما تسمى بالعدالة اللبنانية المرتبطة باغتيالات الشخصيات السياسية اللبنانية بدءً برياض الصلح مروراً بكمال جنبلاط وبشير الجميل وطوني فرنجية ورشيد كرامي وحسن خالد وداني شمعون ورينيه معوض وحليم تقي الدين وبطرس خوند وغيرهم من الذين تم اغتيالهم على مر التاريخ اللبناني الحديث ولم يتم الكشف عن الجناة ومحاكمتهم.
إذن، الفريقين لديهما مبررات منطقية لمواقفهما، هذا إذا أردنا أن نتناول الموضوع بمقاربة علمية خالية من الاصطفاف السياسي والحكم على النوايا. وعليه، فإن فريق 8 آذار يعتبر المتهمين أبرياء ويعتبر الاتهامات افتراءً بعيداً عن العدالة ويتضمن أجندة سياسية غربية تخدم إسرائيل والمصالح الغربية في منطقتنا. أما فريق 14 آذار، فيعتبر الاتهام شرعي لأنه منبثق عن عدالة هم يعترفون بها ويقدرونها، لذلك يجب تسليم المتهمين ومحاكمتهم للوصول إلى الحقيقة. ولكن، فإن الخضوع لعدالة هذه المحكمة لها شرط أساسي وهو أن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”. وعليه، فإن الفريقين يتفقان على أن المتهمين أبرياء، فريق 8 آذار لأنه لا يعترف بعدالة المحكمة وفريق 14 آذار لأنه يخضع لمبادئ هذه المحكمة.
من هذا المنطلق الذي أعتبره موضوعياً، سأطرح هذا التساؤل الذي أرجو أن تصلني الإجابة عنه كذلك بموضوعية. فإنني شخصياً لا أؤمن بعدالة تديرها منظمة تحكمها المصالح السياسية الشرسة لبضعة دول عظمى تريد السيطرة على شعوب العالم، ولكنني أعتبر نفسي لبناني حتى النخاع ومشرقي بامتياز. وعليه، لا يسعني إلا أن أعترف بحق الآخر المختلف واحترام رأيه من منطلق أن الاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية. فإن وطني ومنطقتي تمثلان الثراء الحضاري من خلال اختلاف وجهات النظر وتعدد المقاربات، فجميعنا بالنسبة لجميعنا آخر.
يتفق الجميع على أن المتهمين ينتمون إلى حزب الله، بالنسبة للحزب فهم مقاومون وبالنسبة للآخرين فهم من مقاتلي حزب الله. وعليه، ماذا لو سلم الحزب المتهمين للمحكمة؟ سيتم نقلهم إلى لاهاي لمحاكمتهم في هولاندا. ماذا لو أن الدفاع انتصر وأثبت براءتهم، كيف يعودون إلى لبنان؟ إن مبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” هو مبدأ رئيس في القوانين العادلة، لذلك فإن اعتبارهم مذنبين قبل محاكمتهم هو اعتراف صارخ بعدم عدالة المحكمة. وعليه، يجب على الجميع اعتبار إمكانية نيلهم البراءة بالنسبة نفسها لاعتبارهم مذنبين كي نقتنع جميعاً بعدالة المحكمة. من هذا المنطلق أطرح تساؤلي عن إمكانية عودتهم إلى بلادهم في حال أثبتوا براءتهم. إن هولاندا التي تستضيف المحكمة هي عضو فاعل ورئيس في الاتحاد الأوروبي وتحيطها بلاد هي كذلك أعضاء في الاتحاد الأوروبي. وقد أصدر الاتحاد الأوروبي قراراً باعتبار الجناح العسكري لحزب الله منظمة إرهابية، وحيث أن الجميع يعترف أن المتهمين هم ليسوا من القيادة السياسية لحزب الله بل من القيادة العسكرية، أي الجناح العسكري حسب التعبير الأوروبي، فإن المتهمين هم بالنسبة لجميع دول الاتحاد الأوروبي إرهابيين فقط لانتمائهم العسكري لحزب الله، والإرهابي تعتقله السلطان الاستخباراتية وتحقق معه وتسجنه. ولا تستطيع لا المحكمة ولا الأمم المتحدة أن تمس سيادة أي دولة إلا في حال كانت سيادتها تشكل خطراً على السلم والأمن الدوليين، وحتى إذا كانت تشكل هكذا خطراً، فإن اتخاذ أي موقف منها بحاجة لموافقة مجلس الأمن الدولي. علماً أن المياه والسماء الإقليميين لكل دولة تخضع لسيادة وقوانين الدولة. ما هي الضمانة أن المتهمين يستطيعون أن يعودوا إلى ديارهم ولن يكون مصيرهم الاعتقال والاستجواب والسجن لمواضيع غير متعلقة بعمل المحكمة؟
إنه تساؤل برسم الجميع. أما شخصياً، فإنني أرفض مجرد تسمية من أعتبرهم مقاومين لبنانيين بالإرهابيين؛ إنها إهانة لدماء شهداء لبنان، كل الشهداء ومن جميع الأحزاب والتوجهات والأيديولوجيات والطوائف والمناطق… رحمك الله أيها الرئيس فرنجية وصدقت عندما قلت: وطني دائماً على حق.
**