منذ فجر التاريخ، لم تكن الجبال التي سكنها الموحدين الدروز مجرد تضاريس طبيعية، بل كانت حصوناً للحرية وعناوين للكرامة. عُرف بني معروف، بأنهم قوم لا يُذلّون ولا يرضخون، سطّروا تاريخهم بحروف من نار ودم، وظلوا شوكة في خاصرة كل غازٍ أو محتل حاول أن يمدّ يده إلى أرضهم أو كرامتهم. ليس الحديث عن بطولة ظرفية أو تمرد عابر، بل عن سيرة طويلة من التحدي، واجه فيها الموحدين الدروز إمبراطوريات وجيوشاً مدججة، ولم تنحنِ رؤوسهم يوماً.
في مطلع القرن التاسع عشر، عندما اجتاحت جيوش محمد علي باشا بلاد الشام بقيادة ابنه إبراهيم باشا، خضعت مناطق واسعة من الشام تحت قبضته الحديدية. لكن جبل الدروز لم يكن ساحة مفتوحة للغزو، فخاض أبناء الجبل معارك شرسة ضد حملة إبراهيم باشا، دامت سنوات ولم يُسجَّل فيها للموحدين الدروز إلا الثبات والرفض. تكبّد الجيش الغازي خسائر كبيرة، واضطر في النهاية إلى الانسحاب من الجبل بعدما أدرك أن روح المقاومة في تلك القرى لا تُقهر.
وفي القرن العشرين، برز اسم لا يُذكر تاريخ الكفاح السوري إلا مقروناً به: سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية الكبرى. لم يكن سلطان مجرد زعيم محلي، بل كان رمزاً وطنياً وعربياً تجاوز حدود الطائفة والجبل، وجسّد فكرة الثورة الشاملة ضد الاستعمار الفرنسي. تحت قيادته، انطلقت شرارة الثورة في عام 1925 من السويداء، وانتشرت إلى دمشق وحمص وحماة ومناطق أخرى. لقد جمع حوله رجالاً من مختلف المذاهب والطوائف، فكان قائداً لوطن لا لطائفة، ومقاتلاً من أجل حرية شعب لا من أجل مكسب سياسي.
قاتل الثوار الدروز تحت راية سلطان باشا الأطرش في ظروف بالغة الصعوبة، في مواجهة واحدة من أقوى القوى الاستعمارية في العالم آنذاك. استخدم الفرنسيون الطائرات والدبابات والأساليب الوحشية، لكنهم لم يتمكنوا من كسر عزيمة الثوار. ظلت قلاع الجبل مرفوعة الرايات، حتى بعد أن خمدت الثورة عسكرياً، إذ انتصرت في معناها العميق، ورسّخت إرثاً من الفخر والبطولة لا يزال يُلهم الأجيال.
إن تاريخ بني معروف في مقاومة الغزاة ليس مجرد قصص تُروى، بل هو واقع موثق في كل صخرة من صخور جبل العرب، وفي كل بيت احتضن ثائراً، وفي كل أم ودّعت ابنها شهيداً. هم الذين حوّلوا القرى إلى قلاع، وأعادوا تعريف البطولة بأنها ليست بعدد الجيوش ولا بعدّة السلاح، بل بالإرادة والكرامة. ومن يقف اليوم في مواجهة هذه الأمة العصية على الإخضاع، عليه أن يقرأ التاريخ جيداً. لن يكون أحمد الشرع وفصائله المسلحة أقوى من إبراهيم باشا المصري، ولا من الجيش الفرنسي. هؤلاء جميعاً سقطوا تحت أقدام بني معروف، لا لأنهم كانوا أضعف عدّة وعتاداً، بل لأنهم واجهوا شعباً لا يساوم على حريته، ولا يبيع كرامته، ولا يُجيد فنّ الركوع.
**