تُعد قضية مزارع شبعا من القضايا السيادية الجوهرية التي تعود إلى الواجهة في كل مرة تمر فيها المنطقة بتحولات سياسية كبرى، لا سيما في ظل الحديث المتزايد عن احتمال حصول اتفاق تطبيع بين سوريا وإسرائيل، ومحاولات الضغط على لبنان للحاق بهذا المسار. في خضم هذه التطورات، تبرز أهمية التأكيد على لبنانية المزارع استناداً إلى وثائق تاريخية وقانونية دامغة، بالرغم من الأصوات التي تروّج لطرح مخالف.
الوقائع التاريخية تشير بوضوح إلى أن المزارع جزء لا يتجزأ من الأراضي اللبنانية. فالقرار الشهير رقم 318، الصادر عام 1920 عن الجنرال الفرنسي هنري غورو، نصّ بوضوح على أن قضاء حاصبيا، بما فيه بلدة شبعا ومزارعها وبلدة النخيلة، يُضم إلى دولة لبنان الكبير. وعلى الرغم من أن الخريطة المرفقة بهذا القرار لم تكن دقيقة، فإن النص القانوني الصريح يؤكد الحدود الشرقية التي تشمل المزارع ضمن لبنان.
من الشواهد الدامغة أيضاً، ما حدث عام 1920 عند دخول القوات الفرنسية قرى العرقوب، وفرض غرامات على الأهالي بسبب تمرد محلي. حيث قام وجهاء بلدة شبعا بقطع مئات الأشجار من أحراج مزرعة برختا لدفع الغرامات، ما استدعى تدخل السلطات الإدارية في حاصبيا واعتقال بعضهم لعدم حصولهم على إذن بالقطع. هذا التصرّف يثبت أن المزارع كانت خاضعة فعلياً للسلطات اللبنانية، مما يدحض أي ادعاء بعكس ذلك.
كما تُظهر الوثائق أن النزاع الحدودي لم يكن جديداً، بل برز بشكل واضح عام 1934، حين وقع خلاف بين أهالي شبعا وأهالي قرية جباتا الزيت السورية، ما أدى إلى التوصل إلى اتفاقات موثقة وبدعم من سلطات الانتداب الفرنسي، تم فيها تثبيت وادي العسل كخط فاصل بين الأراضي اللبنانية والسورية. ثم في عام 1937، تم إرسال تقرير رسمي من المستشار الفرنسي للبنان الجنوبي إلى المسؤولين في سوريا يؤكد فيه لبنانية المزارع، مع خريطة واضحة تدعم هذا التوصيف، باستثناء مغر شبعا.
وفي العام 1944، أُثيرت القضية مجدداً بعد رسالة احتجاج من مختار بلدة شبعا إلى رئيس الجمهورية اللبنانية، يشكو فيها من محاولات ضم أراضٍ لبنانية من قبل مسّاحين سوريين. وأفضت هذه الشكوى إلى تشكيل لجنة مشتركة لبنانية – سورية، تضم قضاة ومهندسين من الجانبين، قامت بترسيم دقيق للحدود، وتم التوافق في عام 1946 على أن المزارع جزء من لبنان.
الدلائل لا تقف عند هذا الحد، إذ توجد سلسلة من التصريحات الرسمية السورية – بلغ عددها 13 – من شخصيات قيادية ودبلوماسية، أكدت بشكل صريح لبنانية المزارع. ويعزز هذا الموقف أن مزارع شبعا لم ترد في الخرائط الملحقة باتفاق فك الاشتباك بين القوات السورية والإسرائيلية، ولم تشملها تقسيمات مناطق الجولان الثلاث، كما لم تنتشر فيها قوات الأمم المتحدة (الأندوف)، ما يشير بوضوح إلى أنها ليست جزءاً من الأراضي السورية المحتلة.
رغم هذا الثقل التاريخي والقانوني، فإن الدولة اللبنانية لم تتخذ خطوات كافية لترسيخ حقها دولياً. فالمطلوب ترجمة الوثائق الرسمية وتقديمها إلى مجلس الأمن، والتعامل مع هذا الملف كقضية وطنية استراتيجية. يُلاحظ أن غياب هذا التحرك الرسمي يفتح الباب أمام محاولات إسرائيل لضم المزارع، عبر ربطها بالجولان المحتل، كجزء من مخطط قديم للوصول إلى نهر الليطاني، وهو ما يعكس الأهمية الاستراتيجية القصوى لهذه المنطقة.
أما ما يُروّج حالياً عن احتمال الاعتراف بسوريّة المزارع ضمن تسوية إقليمية أوسع تشمل الجولان، فخطير للغاية، لأنه يهدف إلى تجريد لبنان من إحدى أبرز نقاط النزاع الحدودي، بحجة أن باقي الملفات قابلة للحل، فيما يتم تصوير مزارع شبعا كمشكلة “معقّدة” يمكن تجاوزها. وهذا الطرح يخدم الرؤية الإسرائيلية، ويلاقي دعماً في بعض الدوائر الغربية التي تُعرف بتبسيطها المتعمد لمثل هذه القضايا، كما حصل في طرح سابق لتهجير سكان قطاع غزة.
إن التمسّك بلبنانية مزارع شبعا ليس موقفاً سياسياً آنياً، بل هو حق تاريخي موثق قانونياً، ويجب فصله تماماً عن أي خلافات داخلية تتعلق بوسائل استعادة الأرض أو أدوار القوى الفاعلة في هذا الملف. فالمزارع لبنانية، ويكفي الاستناد إلى الحقائق والمعاهدات والوثائق لإثبات ذلك أمام العالم، بعيداً عن أي صفقات أو تسويات مشبوهة قد تمس بالسيادة الوطنية.
**