في خطوة أثارت الكثير من علامات الاستفهام، أعلنت الإدارة الأمريكية عن رفع العقوبات المفروضة على حكومة أحمد الشرع في سوريا، في أعقاب سلسلة تحركات سياسية جذرية قامت بها حكومته، أبرزها التخلي العملي عن المطالبة باستعادة الجولان المحتل، والدخول في مسار تطبيع شامل مع إسرائيل. هذه الخطوة لم تكن معزولة عن السياق الإقليمي والدولي، بل جاءت كحلقة من سلسلة طويلة من إعادة تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط، بدأت بوضوح بعد عملية “طوفان الأقصى”، واستمرت في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بصيغ مختلفة والتي كان آخرها توقيع ترامب أمرا تنفيذيا لإنهاء العقوبات على سوريا.
الرسالة الأميركية كانت واضحة: واشنطن مستعدة لمكافأة من يعيد التموضع وفق أولوياتها، حتى وإن كانت المكافأة رمزية في شكلها ومؤثرة في مضمونها. فرفع العقوبات عن حكومة الشرع لا يُفهم فقط على أنه إقرار بشرعية سياسية جديدة، بل هو أيضاً اعتراف بانخراط فاعل في مشروع إقليمي يقوم على تهدئة الصراعات المفتوحة، وتصفية الملفات المعلقة، ولو على حساب قضايا سيادية كانت تُعد سابقاً غير قابلة للمساومة.
الجولان الذي لطالما مثل محوراً من محاور الصراع العربي الإسرائيلي، لم يغب فقط عن خطاب الشرع، بل تم تجاوزه عملياً تحت ذريعة “الواقعية السياسية” و”أولوية الاستقرار”. أما التطبيع مع إسرائيل، فقد تم تقديمه كخطوة ضرورية للخروج من العزلة، وكممر إجباري نحو إعادة الإعمار وفتح قنوات الدعم الدولي. وبهذا، فإن الحكومة الجديدة في دمشق لم تنشأ فقط من رحم تسوية سياسية، بل تشكّلت وفق شروط دولية أُعيد فيها تعريف مفهوم “السيادة” و”الشرعية” بما يتناسب مع التحالفات الجديدة في الإقليم.
من منظور استشرافي، يبدو أن المنطقة تتجه نحو شرق أوسط جديد لا تقوم معادلته على الصراع، بل على هندسة التوافقات السياسية عبر صفقات متعددة الأوجه. لم تعد القضايا الكبرى كفلسطين، أو الجولان، أو حتى السيادة الوطنية، خطوطاً حمراء، بل أصبحت أوراق تفاوض يجري تسعيرها ضمن منطق المصالح والاصطفاف الدولي. هذا التغيير يفتح الباب لتحالفات جديدة، لكنه يثير أيضاً مخاطر لا يمكن تجاهلها، أولها اتساع الفجوة بين الأنظمة السياسية وشعوبها، وثانيها دخول قوى إقليمية معارضة على خط المواجهة غير المباشرة، سواء عبر أدواتها العسكرية أو شبكات نفوذها السياسية.
رفع العقوبات عن حكومة أحمد الشرع، في ظل التخلي الضمني عن الجولان وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لم يكن قراراً اقتصادياً أو قانونياً فحسب، بل كان خطوة سياسية تحمل دلالات عميقة على مستوى هندسة النظام الإقليمي. إنها جائزة ترضية لمن اختار التموضع في المعسكر الأمريكي-الإسرائيلي، لكنها في الوقت ذاته مؤشر على بداية مرحلة جديدة تتسم بإعادة تعريف المفاهيم التقليدية للصراع العربي الإسرائيلي، وربما إعادة صياغة الهوية السياسية للمنطقة برمتها.
في نهاية المطاف، ما بدا مكسباً لحكومة الشرع قد يتحول إلى عبء استراتيجي إذا ما فشلت هذه المقاربة في امتصاص الغضب الشعبي، أو إذا ما أفرزت المنطقة تحولات مفاجئة على غرار ما حدث في موجات الربيع العربي. التاريخ في الشرق الأوسط لم يكن يوماً خطياً، وكل صفقة تُبرم في العلن قد تُفكك في الظل إذا تغيّر ميزان المصالح أو نبض الشارع.
**