في المشهد السياسي الأميركي المعقد، يظهر صراع داخلي عميق بين تيارين رئيسيين: تيار “ماغا” الذي يمثله ستيف بانون، أحد أبرز حلفاء وداعمي الرئيس السابق دونالد ترامب، وبين ما يُعرف بـ”الدولة العميقة”، وهي شبكة النفوذ داخل مؤسسات الدولة التي تميل إلى النهج العسكري والتدخل الخارجي. يمثل بانون التيار القومي الذي يستند إلى عقيدة الرئيس الأسبق رونالد ريغان، التي ترفض التورط في حروب خارجية وتضع الأولوية القصوى للاقتصاد والصناعة والزراعة والتكنولوجيا، إلى جانب معالجة قضايا الهجرة والتحديات الاجتماعية داخل الولايات المتحدة نفسها.
حركة “ماغا” (اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا) تركز على الاستثمار في الداخل الأمريكي وتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية، وهو ما ظهر جليًا خلال زيارات ترامب إلى الشرق الأوسط، حيث كانت الأهداف اقتصادية واستثمارية بحتة، وتركزت على توقيع اتفاقيات تجارية واستراتيجية تعزز من مكانة أميركا الاقتصادية دون اللجوء إلى فرض الأيديولوجيا أو الديمقراطية بالقوة. هذا التوجه يتناقض جذريًا مع مقاربة الدولة العميقة التي ما زالت ترى في استخدام القوة والعسكر وسيلة لحفظ الهيمنة الأميركية عالميًا.
الصراع بين ماغا والدولة العميقة يتخذ أبعادًا استراتيجية حاسمة، خاصة في ما يتعلق بمواقف واشنطن تجاه إيران. ماغا حذّرت من أي مواجهة عسكرية مباشرة مع طهران، معتبرة أن مثل هذا السيناريو سيقوّض بشكل مباشر جهودها الاقتصادية في الشرق الأوسط، وسيمنح الصين فرصة استراتيجية للتمدد واستغلال التوتر الأميركي الإيراني لتعزيز حضورها الاقتصادي في المنطقة، على الرغم من وجود اتفاق اقتصادي أميركي-صيني مرتقب. لكن تبقى المنافسة بين القوتين على الأسواق والموارد مسألة حتمية لا مفر منها.
تشير تقارير قدمتها شخصيات محسوبة على تيار ماغا إلى أن تكلفة الحروب التي خاضتها أميركا في أفغانستان والعراق تجاوزت الثمانية تريليونات دولار، ما أدى إلى تراجع دورها العالمي في مجالات التصنيع والتكنولوجيا. من هذا المنطلق، فإن الحرب لا تصب في مصلحة الولايات المتحدة، بل تهدد مصالحها، وتعيق قدرتها على التنافس الاقتصادي عالمياً، وهو ما تدركه ماغا وتسعى لمنعه بشتى الطرق.
ترى ماغا أن إيران، في حال استمرار الحرب ضدها، ستلعب على وتر الظروف الدولية لتوسيع نفوذها والضغط على واشنطن، وهو ما يذكّر بالمشهد الذي سبق انهيار الاتحاد السوفييتي، حين تم اتباع سياسة الاحتواء والحصار التي انتهت بالانهيار. ومع ذلك، فإن انهيار إيران – رغم التوترات – ليس بالضرورة في مصلحة واشنطن أو المنطقة، بل قد يدفعها نحو فوضى أمنية وسياسية عالية التكلفة.
من هذا المنظور، يمكن القول إن ماغا، بعقيدتها الاقتصادية البراغماتية، قد فرضت نفسها كقوة رئيسية في إعادة رسم الأولويات الأمريكية. وقد تكون على أعتاب انتصار استراتيجي يتمثل في فرض مقاربة جديدة للسياسة الخارجية تتجنب الحروب وتُعلي من شأن الاستثمار والتحالفات الاقتصادية. في هذا السياق، تتبلور ملامح اتفاق إقليمي جديد قيد الولادة، سيمهد الطريق لثلاثي جديد سيعيد تشكيل الخارطة السياسية والاقتصادية للمنطقة.