في اليوم الحادي عشر للحرب، موقفان يتنازعان الفريقين المهاجمين: الإسرائيليون يضغطون لتغيير النظام الإيراني بكامله، معتبرين أنّه سيستغل أي تسوية لـ»التعملق» مجدداً. وفي المقابل، ما زال دونالد ترامب يفضّل أن يلاقيه الإيرانيون إلى الطاولة، ويبرموا معه الصفقة.
حتى الآن، تطبّق إسرائيل في إيران 4 تكتيكات أساسية سبق أن نفّذتها في الحرب على «حزب الله»، العام الفائت:
1- استهداف الهيكلية القيادية أو «الرؤوس». ففي لبنان، عمدت منهجياً إلى تصفية القيادات والمسؤولين الفاعلين في «الحزب»، بهدف شل قدرته على القيادة والسيطرة وتنسيق العمليات. وفي إيران، هي كذلك تستهدف المسؤولين العسكريين الكبار والعلماء في مجال الطاقة النووية.
2- ضرب البنية التحتية والقدرات النوعية. ففي الحرب على «حزب الله»، تركّزت الضربات الإسرائيلية على تدمير مخازن الأسلحة، ولاسيما منها الصواريخ الدقيقة ومراكز القيادة والتحكم والأنفاق ومواقع الإطلاق. وفي إيران، تُستهدف كذلك المنشآت النووية ومخازن الصواريخ الباليستية ومواقع إنتاج الطائرات المسيَّرة.
3- تقويض القدرات من دون السعي إلى احتلال الأرض. فبمعزل عن الأهداف الاستراتيجية التي يقال إنّها تتضمن احتلال أجزاء واسعة من الأراضي اللبنانية، فإنّ إسرائيل انسحبت من مساحات واسعة من أرض الجنوب، كانت قد سيطرت عليها فعلاً في الحرب (على رغم احتفاظها ببضع نقاط حدودية حالياً). وكذلك، بدا أنّ هدف الولايات المتحدة ليس احتلال أراضٍ في إيران، وفق النموذج الذي شهده العراق في العام 2003.
4- الضغط لخلق واقع جديد للتفاوض. في النموذجين، الهدف من الضربات العسكرية هو خلق واقع جديد على الأرض، يدفع «حزب الله» وإيران إلى تقديم تنازلات على طاولة المفاوضات.
طبعاً، هذا لا ينفي وجود وجوه اختلاف جوهري بين نموذجي لبنان وإيران. فـ«الحزب» هو تنظيم مسلح ضيّق النطاق ترعاه إيران، فيما هي قوة إقليمية ودولة ذات سيادة. كما أنّ الولايات المتحدة التي دخلت مباشرة إلى جانب إسرائيل في حربها على إيران، تجنّبت مشاركتها في ضرب «حزب الله»، على رغم من الدعم المطلق الذي قدّمته لها. ويسود اقتناع في واشنطن بأنّ إخضاع النظام الإيراني سيكون كافياً لإضعاف «الحزب» ووكلاء إيران كافة تلقائياً.
هل الاقتناع الأميركي بتغيير سلوك النظام في محله فعلاً؟
حتى اليوم، أثبت هذا النظام قدرة هائلة على التصدّي للضغوط، سواء كانت داخلية أو خارجية. ويرجع ذلك جزئياً إلى طبيعته الأيديولوجية، وقدرته على إعادة التكيّف مع الظروف الصعبة، وإيجاد بدائل (مثل التحول نحو الصين وروسيا) عند إغلاق الأبواب الغربية.
كما أنّ إيران غالباً ما اعتمدت استراتيجية «الإنهاك» ضدّ خصومها. فهي تنتظر تراجع الضغط الغربي بفعل عامل الوقت والمتغيّرات السياسية الداخلية في الدول الغربية، أو الأكلاف الاقتصادية المستمرة، أو ظهور أزمات دولية أخرى تحوِّل الانتباه عنها.
فقد أظهرت إيران قدرة على الانطلاق مجدداً عند تراجع الضغوط عنها، كما حدث بعد الاتفاق النووي عام 2015، إذ استعادت جزءاً من عافيتها الاقتصادية. وبعد انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، عادت إلى تخصيب اليورانيوم بتسارع، فيما تبدّلت الأولويات في الديموقراطيات الغربية. ويعيش الغرب دائماً سراب خسارة إيران قدرتها على التحمّل، والرهان على انتفاضة داخلية.
للتذكير، أظهر أيضاً «حزب الله» قدرة لافتة على التأقلم بعد كل أزمة: فهو استعاد المبادرات بعد انتفاضتي 2005 و2019، فلم تتمكن المعارضة من كسر سيطرته على الدولة التي استفاد غالباً من ضعفها وفراغها، مدعوماً بقاعدة شعبية مرتبطة به ومعبأة أيديولوجياً. ولذلك، بقي يتمسك بسلاحه.
ومن دون أوهام، إنّ «الحزب» الذي خرج من حرب مدمّرة العام الفائت، ووقّع في تشرين الثاني الماضي اتفاقاً لوقف النار يقضي بتسليمه السلاح إلى الدولة، استطاع أن يتنصل من توقيعه، علماً أنّه لم يعد يُحكِم سيطرته على رئاسة الجمهورية والحكومة، ويتعرّض لضغوط إسرائيلية وأميركية شرسة. وهو يرفض علناً تسليم سلاحه إلى الدولة.
وإذا كان هذا هو حال «الحزب» في بيئة ضيّقة كلبنان، فإنّ الضغط على النظام الإيراني يُفترض أن يتسم بمستويات أعلى من النَفَس الطويل، لأنّه يمتلك كثيراً من الهوامش التي تسمح له بعدم الانهيار سريعاً.
ولذلك، تقتضي استراتيجية الضغط استيعاب أنّ هذا النظام ليس مجرد حكومة عادية يمكن الضغط عليها اقتصادياً أو عسكرياً، بل هو يتمتع بعقيدة أيديولوجية عميقة، وقاعدة شعبية (وإن تآكل جزء منها)، وقدرة على التكيّف الداخلي. وهذا ما يجعل «كسر إرادته» تحدّياً هائلاً لأي طرف إقليمي أو دولي.
وهذا يعني أنّ الحرب مع النظام الإيراني لا يمكن أن تكون «حرباً صغيرة»، أو «حرباً غير مكتملة». ووفق مقولة «كل ضربة لا تميتني تقوّيني»، يمكن للنظام أن ينهض من أي حرب ناقصة وأن يستعيد جزءاً كبيراً من المبادرة. ولذلك، ستكون إدارة ترامب أمام تحدّي الانصياع للطرح الإسرائيلي بالذهاب إلى تحقيق الهدف الأقصى، أي تغيير النظام، إذا تبينت لها عبثية رهانها على تغيير سلوكه.
لكن واشنطن تدرك جيداً أنّ الوصول إلى تغيير النظام ليس سهلاً على الإطلاق، لاعتبارات كثيرة، وأنّ تحقيقه يتجاوز شن الضربات العسكرية الساحقة على الأهداف الاستراتيجية، ويستلزم خطة معقّدة وحسّاسة تُنفَّذ في الداخل الإيراني. ولذلك، كبيرة وخطرة هي التحدّيات التي تواجه الجميع في الحرب الدائرة حالياً.