في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يعيشها الشرق الأوسط، بات من الواضح أن النظام الإقليمي يشهد إعادة تشكيل عميقة نتيجة لصعود قوى إقليمية فاعلة مقابل تراجع ملحوظ لدور الأنظمة العربية التقليدية. المواجهة المتصاعدة بين إيران وإسرائيل تمثل أحد أبرز ملامح هذا التحول، لكن ما يزيد المشهد تعقيدًا هو دخول أطراف إقليمية أخرى، وعلى رأسها تركيا، كلاعب طموح يسعى لإعادة تعريف موازين القوى في المنطقة.
إيران، التي بنت استراتيجيتها الإقليمية على دعم القوى غير الحكومية ونشر نفوذها عبر دعم جبهات المقاومة ضد إسرائيل ، نجحت إلى حد بعيد في ترسيخ وجودها في عدة دول عربية، مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن. هذا التمدد الإيراني قوبل بقلق متصاعد من إسرائيل، التي تعتبر الوجود الإيراني في جوارها تهديدًا وجوديًا، لاسيما في ظل برنامج طهران النووي والدعم المستمر لفصائل مقاومة تعتبرها تل أبيب “منظمات إرهابية”. التصعيد بين الطرفين لم يعد محصورًا في الخفاء أو في عمليات استخباراتية محدودة، بل أصبح أكثر علنية، كما شهدنا في الاشتباكات الأخيرة في سوريا، والتهديدات المتبادلة بشن ضربات مباشرة.
تركيا من جانبها، ورغم انشغالها لعقود بالصراعات الداخلية وعلاقاتها مع أوروبا، عادت لتلعب دورًا متعاظمًا في الإقليم، مستفيدة من فراغات القوة التي خلفها الانكفاء العربي والتردد الأميركي. أنقرة سعت إلى تعزيز حضورها في ملفات متعددة، من ليبيا إلى شمال سوريا والعراق، مرورًا بالتطبيع المرحلي مع إسرائيل وإيران على حد سواء، وفق ما تقتضيه مصالحها. فبخلاف إيران التي تتحرك بناءً على عقيدة مذهبية وتوسعية، تميل تركيا إلى براغماتية سياسية تجمع بين الطموح القومي والاعتبارات الاقتصادية والأمنية.
ما يلفت الانتباه هو التراجع الملحوظ لدور الأنظمة العربية، خصوصًا تلك التي كانت تقليديًا تُعدّ مركز الثقل في النظام الإقليمي، كالسعودية ومصر. رغم محاولات هذه الدول الحفاظ على موقعها من خلال التحالفات الأمنية، والانخراط في اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، فإن تأثيرها في الصراعات الحاسمة بقي محدودًا. الصراعات الإقليمية الكبرى تُدار اليوم خارج نطاق القرار العربي، إما من قبل القوى غير العربية كإيران وتركيا وإسرائيل، أو من خلال ترتيبات دولية تهمّش الفاعلين العرب التقليديين.
في ظل هذا المشهد، يبدو أن مستقبل النظام الإقليمي مرهون بمدى قدرة هذه القوى الثلاث — إيران، إسرائيل، وتركيا — على إدارة تناقضاتها، وفرض رؤاها المختلفة لمستقبل المنطقة. إيران تطرح مشروع “محور المقاومة”، المبني على معاداة إسرائيل والغرب، وتركيا تبحث عن استعادة نفوذها التاريخي من بوابة الاقتصاد والتدخلات العسكرية المحدودة، في حين تسعى إسرائيل لتوسيع دائرة تحالفاتها الإقليمية وتطويق التهديد الإيراني. أما الدول العربية، فبين انقسام داخلي وتردد استراتيجي، تجد نفسها على هامش التفاعلات الكبرى التي تعيد تشكيل الخريطة السياسية والأمنية للشرق الأوسط.
هذا الوضع يثير تساؤلات عميقة حول إمكانية نشوء نظام إقليمي متوازن، أو ما إذا كانت المنطقة متجهة نحو مزيد من الاستقطاب والصراعات المفتوحة بالوكالة، في ظل غياب مشروع عربي جامع قادر على التأثير والمنافسة.