يقف الشرق الأوسط اليوم على حافة هاوية جيوسياسية متفجرة، في ظل تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة. الرد الإيراني باستخدام الصواريخ الباليستية ضد أهداف إسرائيلية لا يمكن اعتباره مجرد خطوة تكتيكية، بل هو تحول في معادلة الردع الإقليمي، قد يُخرج الصراع من نطاق الحرب بالوكالة إلى مواجهة مباشرة بين دولتين مركزيتين في معادلات القوة الشرق أوسطية. فبعد عقود من تجنب الاصطدام المباشر، يشير الرد الإيراني إلى أن طهران باتت ترى أن الرد على الهجمات الإسرائيلية، سواء على أراضيها أو على أذرعها الإقليمية، لا يمكن أن يظل محصورًا في نطاق الرد غير المباشر أو العمليات المحدودة، بل يجب أن يرتقي إلى مستوى يغير ميزان الردع.
نجاح إيران في توجيه ضربة صاروخية مباشرة ضد إسرائيل، أصاب أهدافًا حساسة داخل المجتمع الإسرائيلي، ويمكن اعتباره تطورًا بالغ الأهمية في معادلات الردع الإقليمي. فمثل هذا الهجوم يمثل سابقة نادرة في تاريخ المواجهات بين الدولتين، إذ لطالما اعتمدت إيران على العمل عبر وكلائها لتجنب الاصطدام المباشر. أما أن تُطلق صواريخ باليستية من أراضيها نحو أهداف داخل إسرائيل، فذلك يُشكل رسالة مزدوجة: قدرة على المبادرة، واستعداد للمخاطرة، وفي الحالتين يُقصد بها تقويض صورة إسرائيل كقوة لا تُمس؛كما أن هذا الواقع يُسهم في كسر صورة الهيبة العسكرية الإسرائيلية، تلك التي تأسست منذ حرب 1967 ورسختها ضربات جوية دقيقة وعمليات استخباراتية نوعية، سواء في إيران أو خارجها. الهيبة، في السياق الإستراتيجي، ليست مجرد تفوق عسكري، بل إحساس الطرف المقابل بأن الرد سيكون مكلفًا إلى درجة الردع. حين تنكسر هذه الصورة، حتى مؤقتًا، تتغير حسابات اللاعبين الإقليميين. غير أن “كسر الهيبة” لا يعني بالضرورة تراجع القوة. فإسرائيل قد تختار عدم الرد الفوري لتفادي حرب شاملة، أو تؤجل الرد لتوجيه ضربة أكثر إيلامًا لاحقًا. لكن مجرد تمكّن إيران من فرض معادلة “الرد المباشر بالصواريخ مقابل الاعتداء” يعني أن سقف التصعيد قد ارتفع، وأن قواعد اللعبة القديمة بين الطرفين أصبحت غير صالحة، ما يُعيد رسم هندسة الردع في الشرق الأوسط. في المقابل، هذا التطور يعزز من صورة إيران كدولة مستعدة لخوض مخاطر كبرى دفاعًا عن أمنها أو مشروعها الإقليمي. وهو أيضًا اختبار لمصداقية الدعم الأميركي لإسرائيل، فإن لم يترافق الرد الإسرائيلي بدعم نوعي واضح، فقد تُفسر الأطراف الأخرى أن المظلة الأميركية لم تعد كافية أو فورية كما في السابق. بعبارة أخرى، كسر الهيبة الإسرائيلية عبر الصواريخ الباليستية ليس فقط إنجازًا عسكريًا لحظة تنفيذه، بل هو تحول نفسي ومعنوي في بنية الردع، من شأنه أن يُلهب الجبهات ويغري خصوم إسرائيل الآخرين باختبار هذا التغير الجديد في ميزان القوة.
لقد اخذ هذا التصعيد أبعادًا دولية في ظل الإعلان عن الانخراط الأميركي دفاعا عن إسرائيل، حيث تبقى الولايات المتحدة الضامن الأساسي لأمنها، خصوصًا إذا تعلق الأمر بتهديد مباشر لبقائها أو لمراكزها النووية. في المقابل، ورغم غياب تحالفات رسمية مماثلة، فإن إيران قد تسعى لاستقطاب دعم من قوى إقليمية كبرى، وربما تُراهن على باكستان كقوة نووية إسلامية ذات وزن جيوسياسي، رغم أن دعمًا مباشرًا من إسلام أباد يبدو غير مرجح في الوقت الراهن، بالنظر إلى تعقيدات توازنها بين الغرب والصين والسعودية.
إن المخاوف تتزايد من تحول المواجهة إلى حرب إقليمية متدحرجة، حيث لا يمكن استبعاد انخراط أذرع إيران في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، ما يعني فتح جبهات متعددة ضد إسرائيل قد تدفعها للرد بعنف أكبر. في ذات الوقت، قد يجد بعض الفاعلين العرب أنفسهم في موقف معقد، بين الرغبة في كبح التمدد الإيراني وبين الخشية من أن تتحول الحرب إلى فوضى شاملة تُعيد رسم الخريطة السياسية للمنطقة.
إن تحول التوتر إلى حرب مفتوحة سيحمل تداعيات اقتصادية وجيوسياسية خطيرة، بدءًا من اضطراب أسواق الطاقة، ومرورًا بتعطل الملاحة في مضيق هرمز، وصولًا إلى تدخلات دولية قد تشمل روسيا والصين في حال انسحبت الولايات المتحدة بالكامل إلى جانب إسرائيل. وفي ظل عدم وجود قنوات تواصل مباشر أو آليات فعالة لاحتواء التصعيد، يصبح أي خطأ في التقدير، أو أي ضربة غير محسوبة، كفيلًا بإشعال مواجهة إقليمية لا تُحمد عقباها، تتجاوز في نتائجها حدود الشرق الأوسط إلى أمن واستقرار العالم بأسره.
في هذا السياق، لا يبدو أن خيار الحرب سيكون لصالح أحد، إذ إن الكلفة المتوقعة باهظة لكلا الطرفين، وللمنطقة بأسرها. ومع ذلك، فإن غياب الحلول السياسية، واستمرار التصعيد الإعلامي والعسكري، قد يجعل الانفجار مسألة وقت، وليس احتمالًا نظريًا. وإذا لم تُبذل جهود جدية لإعادة ضبط الإيقاع الإقليمي، فإن الشرق الأوسط قد يشهد خلال الأشهر المقبلة لحظة تحول مفصلية، تُنهي توازنات عقود وتُدشّن مرحلة جديدة من عدم الاستقرار المتواصل.
**