قد تكون نائبة المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس قد شعرت بأنّ المقابلة التلفزيونية التي أجرتها عند نهاية زيارتها للبنان لم تختزن بشكلٍ كافٍ الرسائل القوية التي أرادتها من جولتها الثانية، وهو ما دفعها على الأرجح لإلحاقها بمقابلة ثانية عبر محطة «العربية ـ إنكليزي» استخدمت فيها تعابير قوية ضدّ «حزب الله» الذي شبّهته بـ«داء السرطان» وداعيةً لنزع سلاحه بسرعة.
في الواقع، ارتكب البعض خطأ جسيماً من خلال «إمرار» أجواء إيجابية عن مهمّة أورتاغوس الثانية، ما دفع بواشنطن إلى الطلب منها تكرار الرسائل المطلوبة علناً وبعبارات نافرة. وهذا ما فتح شهية البعض لركب الموجة، وإطلاق مواقف إنتقادية تجاوزت بند سلاح «حزب الله» في حدّ ذاته، وصولاً إلى استهداف مواقع رسمية، لأهداف تتعلق بلعبة تعزيز المواقع والأحجام في مرحلة التحضير للإنتخابات البلدية وحصد نقاط سياسية منها.
في الواقع، ثمة التزام كامل ونهائي بموضوع بسط سلطة الدولة وحدها وبقواها الذاتية على كل الأراضي اللبنانية. وهو ما ورد واضحاً في خطاب قَسَم رئيس الجمهورية، وفي البيان الوزاري للحكومة. لكن الإلتباس أو حتى الخلاف القائم هو على طريقة التطبيق وليس على المبدأ في حدّ ذاته. ففيما تزين السلطة اللبنانية الموضوع من زواياه المتعددة من أجل الذهاب الى تطبيقه بأقل الأضرار والأكلاف الممكنة، تنظر الإدارة الأميركية إلى الملف من زوايا أخرى، وتتعاطى معه وكأنّه ملف لبناني داخلي بحت، تماماً كملف الإصلاحات المطلوبة.
فملف سلاح «حزب الله» أو ما تبقّى منه، يحمل بعدين أساسيين: الأول بعده لبناني، ويحمل عنوان مواجهة إسرائيل، في وقت تستمر في احتلال مواقع وأجزاء من جنوب لبنان وترفض الإنسحاب خلافاً لاتفاق وقف إطلاق النار، وتقرن ذلك بخروقات يومية. وهو ما يغذّي الذريعة التي يرفعها «حزب الله» بأنّ إسرائيل تنقض الإتفاق.
أما البعد الثاني لهذا الملف فهو الأهم، والمقصود به البعد الإقليمي، وهو الذي له علاقة بإيران ونزاع نفوذها المفتوح في المنطقة.
واستطراداً، فإنّ أي سعي لإنجاز حل لهذا الملف من خلال اختصاره ببعد واحد دون الآخر سيؤدي إلى عكس المطلوب، وهو ما تؤكّده محطات تاريخية عدة، مثل العام 2005 والقرار 1559 وسقوط البلد في نزاع دموي وانقسامه بين فريقي 8 و14 آذار. وكذلك مع حرب العام 2006 وما تلاها من تعزيز نفوذ «حزب الله» العسكري.
لا شك في أنّ القوة العسكرية لـ»حزب الله» قد تلقّت ضربة قاسية عززها قطع طرق إمدادات إيران للحزب، خصوصاً على المستوى البري مع سقوط نظام الأسد في سوريا. وحتى على المستوى الجوي بات واقع مطار بيروت مختلفاً بنحو كامل عمّا كان عليه في عزّ سطوة الحزب. أضف إلى ذلك، فشل «حزب الله» في تعديل قرار وقف الرحلات الجوية المباشرة مع طهران بعد تحركات شعبية سعت لقطع الطريق إليه. كما أنّ مرحلة قيادة محور المقاومة من الضاحية الجنوبية أصبح من الماضي. لكن السؤال يبقى ما إذا كانت كل هذه الإجراءات كافية لفصل «حزب الله» عن إيران. بالتأكيد لا. ذلك أنّ إيران ستبحث دائماً عن طرق معقّدة لإبقاء التواصل قائماً مع «حزب الله». طبعاً ليس وفق السهولة السابقة، لكنها ستُبقي لها هذا التواصل، خصوصاً أنّ الواقع السوري لا يزال وسيبقى على الأرجح لفترة غير معروفة في وضع غير مستقر في شكل كامل. وإزاء ذلك لا بدّ من إحكام القبضة الرقابية للحدود، وهو ما يستلزم الترسيم النهائي للحدود اللبنانية ـ السورية بعد تسوية النقاط المتنازع عليها مع دمشق، وهو ما يتمّ التحضير له.
في اختصار، فإنّ العلاج الحقيقي والكامل للبعد الخارجي يبقى في طهران، وهو ما سيظهر في المفاوضات التي تعتزم إدارة ترامب إجراءها مع إيران. وقد يكون الإلحاح الأميركي على اختصار المراحل في لبنان له علاقة بأوراق التفاوض مع إيران.
لكن السؤال الكبير: هل إنّ حرق المراحل مضمون؟ بمعنى، ألّا يؤدي هزّ الإستقرار الداخلي اللبناني لتعزيز أوراق إيران التفاوضية، لا العكس؟
ففي نظرة سريعة، تبدو معظم الأطراف الخارجية وكأنّها محشورة بمقدار كبير، بدءاً من واشنطن نفسها، مروراً بطهران ووصولاً إلى تل أبيب. فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي انتقل من هنغاريا الى واشنطن، بدا وكأنّه تمّ استدعاؤه على عجل. وخلال الدردشة التي أجراها نتنياهو مع المراسلين والإعلاميين، بدت علامات الصدمة على وجهه عندما أعلن عن المفاوضات المباشرة التي سيجريها ترامب السبت مع إيران. وبدا أنّ هذا الملف يقف وراء دعوته إلى واشنطن. وعندما تحدث نتنياهو لاحقاً عن تفضيله اعتماد النموذج الليبي لتسوية الملف النووي مع إيران، أوحى بوجود تباين مع ترامب. ونتنياهو المحشور داخلياً بعد إجهاض قراره بإقالة رئيس جهاز «الشاباك» تلقّى «صدمة» ثانية من ترامب عندما وصف الرئيس التركي أردوغان بـ«الذكي» وبأنّه أنجز شيئاً لم يستطع أحد تحقيقه من قبل، وبوجوب التسليم بانتصاره. وقال لنتنياهو الذي استهدف مواقع في وسط سوريا تسعى تركيا للتمركز العسكري فيها، إنّ «أي مشكلة لديك مع تركيا أعتقد أنّ في إمكاني حلّها ما دمت منطقياً في طلباتك، فعليك أن تكون منطقياً».
أما بالنسبة إلى مفاوضاته مع إيران، فالتواصل غير المباشر كان قد بدأ على ما يبدو منذ ثلاثة أسابيع عبر سلطنة عمان. وتمسّك ترامب بالمفاوضات المباشرة يوم السبت (بعد غد) وعلى مستوى رفيع على رغم من النفي الإيراني. وبدا أنّ ترامب في كشفه عن الخبر وتكراره تأكيده إحراج طهران وإظهار «حشرتها»، وكأنّه لم يعد لديها خيار آخر. فلطالما أنكرت طهران وجود تواصل مع إدارة ترامب، وأنّها تريد المحافظة على صورتها من خلال إبقاء خبر التفاوض على هذا المستوى بعيداً من الإعلام. لكن مشاركتها على مستوى وزير الخارجية، توحي في حدّ ذاتها أنّ شوطاً لا بأس به قد قطع، وأنّ تفاهمات عريضة لا بدّ أنّها حصلت. ومن هنا يمكن إيجاد التفسير المنطقي للخبر الذي أوردته صحيفة «تلغراف» البريطانية حول قرار إيران وقف دعمها العسكري للحوثيين، إضافة إلى خبر وكالة «رويترز» عن مسؤولين إيرانيين بدعوتها الفصائل العراقية الموالية لها بتسليم سلاحها للسلطات العراقية. ذلك أنّ وقف إيران لأنشطتها الإقليمية يشكّل أحد البنود التفاوضية الثلاثة.
وترامب نفسه محشور أيضاً، ما يجعل هوامش اللعبة ضيّقة والمناورات محفوفة بالمخاطر. فالرئيس الأميركي مستعجل لتحقيق إنجاز ثمين وسط مغامرة لا بل مقامرة الحرب التجارية التي أعلنها. وليس تفصيلاً أن تشهد الولايات الأميركية تظاهرات حاشدة ضدّ رئيس أميركي لم يمض على دخوله البيت الأبيض إلا نحو شهرين ونصف شهر. وترامب يحمل مشروعاً كبيراً يرمي إلى سيطرة كبيرة على مجلسي النواب والشيوخ في الإنتخابات النصفية في 2026، والسعي لتعديل الدستور لحيازة ولاية رئاسية ثالثة. لكن التعديل الدستوري يحتاج إلى موافقة ثلثي مجلسي النواب والشيوخ وأيضاً ثلاثة أرباع الولايات الأميركية الخمسين. وهو ما يبدو صعباً جداً جداً.
وخلال عشاء أُقيم لجمع تبرعات لمصلحة الحزب الجمهوري للانتخابات النصفية، قال ترامب في كلمته، إنّ الرسوم الجمركية ستساعد الجمهوريين في حملاتهم قبل موعد انتخابات التجديد النصفي. وأضاف: «سنفوز في الانتخابات وسنحقق فوزاً كاسحاً وساحقاً ومدوياً. أنا أؤمن بذلك حقا». ولا شك في أنّ كلام ترامب يخفي قلقاً من المغامرة الكبرى التي دخلها، وبالتالي فهو يفتش عن إنجاز يعطيه دفعاً داخلياً قوياً. وإنجاز اتفاق مع طهران، قادر على تلبية مطلبه.
وهذا التوجّه جعل من زيارة نتنياهو لواشنطن زيارة سيئة. وبدا وكأنّ ترامب كبّل يدي نتنياهو بعض الشيء في سوريا، في مقابل إطلاق يديه في غزة ولبنان. وهنا مكمن الخطورة مع نتنياهو المحشور.
في اختصار، فإنّ الموقف اللبناني الصعب يستوجب كثيراً من الحكمة لدى جميع الأطراف لا الإندفاع في اتجاه رفع السقوف والمزايدات، في وقت يختلط الحابل بالنابل. والحكمة تقتضي ألّا نقدّم هدايا لإسرائيل، وأيضاً ألّا نغالي بالاندفاع في مواقف غير مدروسة وتحمل مزايدات، اعتقاداً بأنّها تحقق نقاطاً في اللعبة الداخلية.