طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا لمدة 61 عاماً، وانتهت حقبة آل الاسد التي شغلت من هذا الحكم زهاء 54 عاماً، وها هي البلاد تدخل مرحلة جديدة لا تزال مجهولة المعالم على رغم من محاولات حثيثة وكبيرة يبذلها من هم في واجهة الحدث المفصلي، من أجل تركيب بنية جديدة للحكم لا صلة لها بما سبق، والسعي إلى الحفاظ ولو على الحدّ الأدنى للتنوّع الديني والطائفي والإتني الذي تميّز به هذا البلد الذي عانى جحيم الانقلابات الدموية منذ عهد حسني الزعيم قبل الانتقال إلى الحكم التوتاليتاري الذي ربط الدولة بحزب، ومنظومة من القوى السياسية المتحالفة معه.
سيُكتب الكثير عن تقييم تلك المرحلة التي طُويت، وما لها وما عليها، والوقوف على سلبياتها التي أفضت إلى هذه النهاية الدراماتيكية لنظام ونهج اتسما بالمكابرة، ورفضا الاعتراف بأنّ هناك عالماً يتبدّل، وخرائط يجري رسمها، فلم يحّصنا تحالفاتهما، ومضيا بعيداً في رفض التغيير، فكانا يتأرجحان بين مساومة غير مضمونة، وتمنّع إلى حدّ العناد. وكانت كل المؤشرات تدلّ إلى أنّ نظام بشار الاسد يعيش مراحله الأخيرة منذ نشوب الأحداث في سوريا، لكنه ثبت مواجهاً حرباً كونية – إذا جاز التعبير- للأسباب آلاتية:
1- الوقوف الحازم والحاسم لكل من روسيا إيران و»حزب الله» والفصائل الشيعية العراقية التي وفّرت التسليح والتدريب والخبرة، وقاتلت إلى جانب الجيش السوري، وأنقذت دمشق من السقوط في حينه، واستعادت ما سقط من مدن ومناطق قتالاً او بالمصالحات.
2- لم تكن البيئة الحاضنة للنظام يومذاك على المقدار الذي بدت فيه قبيل سقوطه، وكانت اكثر تماسكاً وقدرة على تحّمل أعباء المواجهة اقتصادياً واجتماعياً. لكن الوضع قد تحول على الارض بعدما أُنهكت سوريا بفعل الحصار الطويل والقاسي الذي طاولها، والعقوبات المدمّرة التي فرضها قانون « قيصر» الأميركي عليها، والتي أدّت إلى انهيار اقتصادها، وما رتّبه ذلك من تدنٍ للرواتب وتراجع مدوٍ للعملة الوطنية، وانتفاء للخدمات الاجتماعية والصحية التي كانت توفّرها الدولة لمواطنيها. فكانت الفاقة غير المسبوقة التي وضعت الناس على حافة المجاعة، فانحسرت البيئة الحاضنة إلى الحدود الدنيا.
3- كان محور الممانعة لحظة قيام الحرب في سوريا في أقصى درجات تماسكه وتنسيقه، وكان في استطاعة الاسد الاتكاء عليه في مواجهة المنقلبين على نظامه. إلّا أنّ بشار لم يلتفت إلى هذه الاسباب التي ساعدته على الوقوف على رجليه وإنقاذ نفسه ونظامه، ولم يقم بأي مبادرة عملية ومباشرة بعد حسم الجولة الأولى من الحرب في العام 2015، وبيده أوراق قوة يستطيع صرفها لمصلحة سوريا ومصلحته، والعمل على احتواء المعارضة. وكان من نتيجة ذلك أن استمر في عزلته، فيما انصرفت المعارضة إلى تهيئة نفسها وبناء قدراتها العسكرية، المخابراتية والاعلامية، في انتظار اليوم الكبير الذي ساعدت الأوضاع الاقليمية المتفجّرة، من حرب غزة إلى الحرب على لبنان، وما تعرّض ويتعرّض له «حزب الله» من ضربات على يد إسرائيل، على سقوطه. وكان ما كان من أمر التطورات التي عجّلت في مغادرته الحكم على النحو الذي تمّ فيه لاجئاً سياسياً في موسكو.
بعد هذا العرض: سوريا إلى أين؟
بمعزل عن التحليلات التي تتحدث عن رابح وخاسر على المستوى الدولي والعربي، والمخاوف المشروعة على التنوع الديني والطائفي على رغم من كل المبادرات التي تجري لتبديدها من جانب الذين أمسكوا زمام الامور، لا بدّ من الإقرار أنّ ما جرى في سوريا شكّل الفرصة الذهبية لإسرائيل لكي تفرض هيمنتها على المنطقة، في سعي منها لتركيب شرق أوسط جديد بمواصفاتها ووفق دفتر شروطها، فبعد غزة ولبنان، كانت المحطة السورية الأكثر وضوحاً، وتسليطاً للضوء على خطة الدولة العبرية التي باشرت اعتداءاتها المكثفة على سوريا قبيل رحيل الاسد وبالتزامن معه وبعده.
وإنّ قراءة متأنية في نتائج هذه الاعتداءات وأبعادها تدل إلى آلاتي:
أ- تدمير البنية العسكرية لسوريا من خلال القضاء على قوتها الجوية بتدمير طائراتها، والبحرية بقصف البوارج والخافرات، والزوارق، ومراكز البحوث العلمية، وإدارة الحرب الالكترونية. كذلك قصف مواقع الفرق والالوية. ولم تقتصر الضربات الإسرائيلية على دمشق بل كل المناطق السورية.
ب- إنّ هذا يعني أنّ تل أبيب إختارت هذا التوقيت المفصلي من أجل تجريد سوريا من أي قدرة على تشكيل اي خطر قد يستهدفها مستقبلاً، ومنع بناء اي جيش ذي عقيدة قتالية يمكن أن يكون مصدر تهديد لها، وذلك تحت شعار: التحرك المسبق مخافة وقوع الأسلحة الهجومية بيد «عناصر متطرفة» على حدّ زعمها.
ج- إقتصار دور الجيش السوري مستقبلاً على ضبط الداخل بأسلحة مناسبة لا يمكن أن تقض مضاجع الدولة العبرية، وبالتالي كسر نظرية الردع المتوازن أو حتى المحدود التوازن الذي كان محور الممانعة يروّج له. لكن اللافت هو إقدام إسرائيل على انتهاك القرارات الدولية بدخول منطقة فك الاشتباك في الجولان، والتوغل في مدن وقرى محاذية للهضبة المحتلة وضمّها إلى اراضيها والتمركز في الجانب السوري من جبل الشيخ، والتقدّم أيضاً إلى أماكن قريبة من دمشق او تقع على الطريق المؤدية اليها، وذلك في انتهاك صريح، ولا يحتاج إلى كثير من الأدلة، لسيادة بلد هو عضو في الامم المتحدة وجامعة الدول العربية. واللافت أيضاً هو صمت المجتمع الدولي بدءاً من الهيئة الأممية، والدول العربية وخصوصاً مَن يديرون الشأن السوري حالياً عن الارتكابات الإسرائيلية المنافية لميثاق الامم المتحدة، والقوانين الدولية. وهذا مؤشر في بالغ الخطورة، ويعني أنّ تل أبيب ماضية في خطتها حتى النهاية توخياً لشرق اوسط «نظيف» من العوامل التي يمكن أن تتهدّدها. وقد تشمل عملياتها العراق موضعياً، من دون أن تتوقف المنازلة مع إيران بأشكال شتى تحدّدها طبيعة المعركة المفتوحة بينهما.
وفي نهاية المطاف، كيف سيكون عليه المشهد السوري الداخلي:
1- إنّ الوضع المستجد في سوريا هو تحت المجهر الدولي والعربي.
2- هناك مساعٍ لطمأنة الأقليات الدينية والإتنية والحفاظ على وجودها وحقوقها. وتفيد المعلومات الواردة من سوريا، أنّ القلق لا يزال قائماً لديها.
3- لا يزال الغموض سارياً حول ما سيرسو عليه نظام الحكم في قابل الايام بعد انتهاء الفترة الانتقالية: هل سيقوم على الشراكة المتناسبة بين مكونات المجتمع السوري، ويحترم التنوع في التركيبة الجديدة للسلطة، بما يبدّد مخاوفها ويحدّ من هواجسها؟
4- كيف ستتعامل السلطة الجديدة مع الاكراد: هل ستقبل بوضعية خاصة بهم في مناطق وجودهم وامتيازات معينة لا تتنافى مع سيادة الدولة، أو تتهيأ لصدام معهم في توقيت ما، تحدّده المعطيات وتطورات الاحداث؟ وكيف ستتعاطى هذه السلطة مع وضع الساحل السوري الحذر والقلق على رغم من بيانات الطمأنة والاستجابة من الفريقين؟
5- كيف سيكون شكل الحكم وتركيبته؟ وهل سيكون ذا وجه إسلامي او إطاراً اسلامياً ـ علمانياً بتوليفة دستورية او إجرائية يتفق عليها لامتصاص المخاوف؟
إلى ذلك، لا بدّ من الوقوف على ما ينتظر لبنان جراء المتغيّرات الكبيرة في سوريا، لأنّه البلد الأقرب وتربطه به حدود واسعة ومصالح متداخلة، وهناك اتفاقات ومعاهدات معقودة بين البلدين منذ زمن الاستقلال إلى زمن الطائف، وأبرزها معاهدة الاخوّة والتنسيق في عهد الرئيس الراحل إلياس الهراوي، ومجالس مشتركة أبرزها المجلس الأعلى اللبناني – السوري، ومع أنّه لم تعد للمعاهدة اي مفاعيل على الارض منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005، ولم يعد للمجلس الأعلى اي مهمّة محدّدة منذ نشوب الحرب في سوريا العام 2011، يجب الاستعداد للبحث في هذين الموضوعين والبتّ في مصير المعاهدة والمجلس لجهة الغائهما او إدخال تعديلات جذرية عليهما في ما يتصل بحدود الصلاحية والدور، مع السلطة الجديدة في دمشق، وآفاق المستقبل بينهما. إضافة إلى ملفات الحدود وطريقة ضبطها في الاتجاهين، واستجرار الكهرباء، والمياه.
إن ما يؤرق لبنان هو ألّا تكون سوريا مستقرة، لأنّ ذلك سيفاقم أزمة النازحين الذين سيكونون من هويات وانتماءات مختلفة هذه المرّة، وسيكون تدفق الأقليات الأكثر كثافة. من هنا، اهتمام لبنان بمجريات الأحداث في البلد الذي يشكّل ممره الحيوي عبر الترانزيت إلى الداخل العربي، والذي تشدّه اليه مصالح حيوية متشابكة. فكل خلل على مستوى العلاقة سيكون ولّاداً لمشكلات وتوترات مفتوحة. وهذا هو التحدّي الكبير لرئيس الجمهورية الجديد الذي يفترض انتخابه في التاسع من كانون الثاني المقبل، والحكومة التي ستتشكّل بعد انتخابه. وإنّ الاتصالات التي ستلي هذا الاستحقاق بين البلدين ستكون كفيلة برسم ملامح المرحلة المقبلة فيهما، وتؤشر إلى ما يمكن أن تستقر عليه العلاقات بينهما.
هناك هواجس سورية ولبنانية كبيرة في مرحلة ما بعد الاسد: هل يستطيع الحكم الجديد في سوريا، وهو الواقع بين حدّي نفوذ إسرائيلي قسري جنوباً وتركي شمالاً، من بلورة توجّه استقلالي يسير بين الخطوط المتعرجة الذي يفرضه الواقع الجيوسياسي المستجد؟ وبالتالي هل ستكون سوريا قادرة على حماية وحدتها وفق الصيغة المركزية او صيغة أخرى؟ وكيف للبنان أن يواجه تداعيات الزلزال السوري وسط الانقسام السياسي العمودي الحاد الذي يرسو فيه؟ وهل تكون التطورات فرصة للتنبّه، وعدم الانجرار إلى ما يعكّر السلم الاهلي الذي لم يتهاو بعد، على رغم ما مرّ به من امتحانات قاسية.
تحدّيات بحجم الهواجس، وهواجس بحجم التحدّيات. وإن الحديث عن ملامح المستقبل بصيغة الجزم هو من ضروب التخيل و»التبصير والتبريج».