سيسيل حبرٌ كثير عند تقييم النتائج التي انتهت اليها العمليات العسكرية وما رافق العدوان الإسرائيلي على لبنان بعد التوصل الى وقف العمليات العسكرية فجر أمس الأربعاء، وبدء احتساب مهلة الايام الستين التي ستُظهر جدّية الأطراف المعنية في تنفيذ ما هو مطلوب من كل منهم قبل بلوغ مرحلة وقف إطلاق النار النهائي وبدء المراحل المقررة على مستوى الخيارات السياسية والديبلوماسية والأمنية التي وضعت حداً لكل الخيارات العسكرية التي يمكن عند قراءة نتائجها اكتشاف ما انتهت اليه من كوارث ونكبات حلّت باللبنانيين، إلى درجة اظهرت وجود ثلاثية جديدة قوامها «الدم والدموع والنزوح». وهو أمر لا يخضع لأي جدل، وخصوصاً إن تحول بيزنطياً، فهو سيتحكّم بعقول اللبنانيين عند النقاش في ما انتهت اليه هذه الحرب، وهو ما يمكن ترجمته بشلال الشهداء الذي اقترب من الآلاف الخمسة، وقد يتجاوزه عند اكتشاف هويات من لم يتبين مصيرهم حتى اللحظة. عدا عن عدد الجرحى والمعوقين الذي قد يتجاوز الـ20 الفاً إن أُحصي عدد الذين أصيبوا بتفجيرات أجهزة النداء «البايجر» واللاسلكي الـ«ووكي توكي» وصولاً إلى مسلسل الغارات التي حصدت الآلاف منهم، والتي يمكن معاينتها في الجولة التي تشمل مختلف المناطق اللبنانية من أقصى الجنوب الى الشمال وعمق البقاعين وجبل لبنان حتى بيروت وضاحيتها الجنوبية. وإن توسعت عملية الإحصاء لا بدّ من انتظار نتائج الدراسات الجارية في أكثر من موقع ومؤسسة إحصائية، لتقدير حجم الخسائر التي يمكن معاينتها في المدن والقرى اللبنانية على مساحة الوطن قبل الوصول إلى مرحلة تقدير الخسائر غير المنظورة التي طاولت ملايين اللبنانيين بلا استثناء كما المقيمين على الأراضي اللبنانية. وهو ما ينسحب على القطاعات الحيوية، الانسانية، الطبية، الاقتصادية والتربوية، والتي اقترب بعضها من الإفلاس والهلاك، الى آخر المعزوفة التي تطاول وجوه حياتهم اليومية قبل الوصول الى اي مقاربة تعني مستقبلهم. ولا يُنسى في هذا المجال الإشارة الى انّ التدمير الممنهج قد طاول مساحة تتجاوز الـ 320 كيلومتراً مربعاً من المناطق السكنية والاقتصادية على الأراضي اللبنانية في أقل من شهرين تقريباً ما بين الجنوب والبقاعين والضاحية الجنوبية، وهو رقم اقترب من ان يكون بمساحة قطاع غزة الذي دمّرته إسرائيل في خلال 11 شهراً في العدوان الممتد من السابع من تشرين الاول العام الماضي حتى اليوم، بمساحته المقدّرة بنحو 365 كيلومتراً مربعاً. وإلى هذه المعطيات والمؤشرات التي لا يمكن تجاهل نتائجها والمخاطر، ليس من المستغرب ان تتوسع مجالات التنظير حول هوية الرابح والخاسر من هذه الحرب، وسيختلف اللبنانيون بالتأكيد حول طريقة احتسابها، ولكن بنسبة أقل من السابق. فالجميع بات على اقتناع بما تعرّضت له المقاومة في حربها الاخيرة من صدمات ومفاجآت جاء معظمها من الحلفاء وأهل البيت وهو امر يظهره كثير من الأبحاث المعمّقة الجارية لدى اكثر من طرف محلي وإقليمي ودولي قبل فتح دفتر الحساب في وقت قريب يلي استراحة المحارب. وهو أمر كشفت عنه تقارير ديبلوماسية واستخبارية عبّرت عن ذهولها من حجم بنك المعلومات الذي كان لدى القيادة الإسرائيلية، قبل ان تمزج ما بين قدراتها العسكرية والاستخبارية وما يمكن ان ينتجه الذكاء الاصطناعي إن تحول إلى آلة اجرامية. وقد استُخدم في وجهة لا توفّر بين مقاتل ومدني بريء وما بين موقع عسكري ومنشأة مدنية وأخرى آمنة كانت تحت راية الامم المتحدة ومنظماتها الانسانية ومناطق سكنية خالية من اي مظهر عسكري ولا يمكن ان تكون مصدراً لأي خطر. كل ذلك تمّ على قاعدة تجاوز ما وفّرته من حماية تحدثت عنها القوانين والمواثيق الدولية والإنسانية. وهو ما ترجمه العدوان في مختلف المراحل التي تطور فيها منذ عام وشهرين تاريخ اندلاع النزاع في قطاع غزة في 7 تشرين الاول العام الماضي وتورط بعض اللبنانيين فيه في اليوم التالي. وإلى هذه المعطيات التي تعطي صورة غير مكتملة لوقائع أطول الحروب الاسرائيلية مع «حزب الله» في لبنان و«حماس» في القطاع انتظاراً لما سيتكشف لاحقاً من حقائق تمسّ العقول وتدمي القلوب، فقد كشفت تقارير ديبلوماسية واستخبارية في جزء قليل منها، وما زالت اكثريتها سرّية جداً، حجم الخروقات في بنية «محور الممانعة» من طهران إلى مختلف أذرعها في المنطقة ولبنان، والتي وبعد ان أثبت فشل ما بُني على قاعدة «وحدة الساحات» بضربة قاضية، منذ ان تفرّدت «حماس» بخرقها اولاً، لأسباب ما زالت مجهولة على اهل البيت وآخرين من المهتمين ببنك المعلومات المتصل بالبحث المتواصل عن مجموعة الأسرار المخفية حتى اليوم. وفي الحصيلة النهائية التي يمكن الإشارة اليها لماماً، تضيف التقارير الديبلوماسية والاستخبارية عينها، أنّ ما هو ثابت أظهر حجم الخرق الموجود في لبنان ومدى مراقبة العدو الاسرائيلي لكل شاردة وواردة في عمق دار المقاومة وهيكليتها وتركيبتها الجهادية، بنحو أذهل الحلفاء قبل الخصوم. وهو أثبت ما كشف عنه يوماً الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين عندما اتهم علناً وبلا أي مواربة كلاً من اسرائيل و«حزب الله» بالاستعداد لهذه الحرب منذ اللحظة التي جمّدت فيها العمليات العسكرية في القرار 1701 في 11 آب 2006 يوماً بيوم وإلى اللحظة التي لم يكن اي منهما يعرفها مسبقاً، والتي فرضتها عملية «طوفان الأقصى» بما شكّلته كطلقة اولى للحرب في تاريخ النزاع الإسرائيلي ـ العربي بمحطاته مع الفلسطينيين واللبنانيين بعدما طويت صفحتها مع دول الطوق في الأردن بعد مصر، قبل ان تتوسع برامج التفاهمات الإبراهيمية التي غيّرت مجرى المواقف من عدو ما زال يتربص بالجميع. وعليه، يبدو من الصعب اختصار ما جرى على مدى 13 شهراً من «حرب المحورين»، لتختصر نتائجها على الساحة اللبنانية بما يحتسب بين 27 أيلول و27 تشرين الثاني التي غيّرت مجرى الأحداث في لبنان وفتحت الأفق على مشروعين متناقضين. أحدهما ينبئ باحتمال بناء دولة إن صدقت التفاهمات، وآخر بمزيد من الخراب، إن لم نسعى إلى توحيد فهمنا لما جرى، بإبعاد لبنان عن مكامن الزلازل الكبرى بين محورين قد لا يلتفت اي منهما إلى ما يؤمّن مصلحة لبنان واللبنانيين.
«ثلاثية جديدة»: ما بين 27 أيلول و27 تشرين الثاني 2024
سيحفر تاريخ 27 ايلول 2024 عميقاً في وجدان اللبنانيين لمجرد ان يتذكّروا اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ولن ينسوا 27 تشرين الثاني من السنة عينها الذي يؤرّخ لانتهاء أطول الحروب مع إسرائيل. وما بين التاريخين هناك من يحصي حجم النكبات التي حلّت بلبنان كل على طريقته، من دون القدرة على رسم وقائع «اليوم التالي»، في ضوء ثلاثية جديدة مفادها «دم ودموع ونزوح» في انتظار ما قد يتغّير. وإلى تلك المرحلة هذه بعض المؤشرات.