أمّا وقد سرى اتفاق وقف إطلاق النّار اعتباراً من الساعة الرابعة فجر أمس الأربعاء، فإنّ العبرة ليست في إعلانه، بل في احترامه والإلتزام الكلّي بمندرجات القرار 1701. والشهران المقبلان، فترة الامتحان الميداني له، ينجح فيها هذا الاتفاق بإنفاذ ترتيباته، أو يُخرق ويسقط بالخروقات وعشوائية التفسيرات.
وفي خطوة تعكس التزام لبنان بمندرجات تسوية وقف إطلاق النار، أعلنت مديرية التوجيه في قيادة الجيش أنّ «الجيش باشر تعزيز انتشاره في قطاع جنوب الليطاني وبسط سلطة الدولة بالتنسيق مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان – اليونيفيل، وذلك استنادًا إلى «التزام الحكومة اللبنانية تنفيذ القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن بمندرجاته كافة والالتزامات ذات الصلة، ولا سيما ما يتعلق بتعزيز انتشار الجيش والقوى الأمنية كافة في منطقة جنوب الليطاني». وأشارت الى أنّ «الوحدات العسكرية المعنيّة تُجري عملية انتقال من مناطق عدة إلى قطاع جنوب الليطاني، حيث ستتمركز في المواقع المحدّدة لها».
موقف لبنان
موقف لبنان من اتفاق وقف إطلاق النار أعلنه رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي بعد جلسة عقدها مجلس الوزراء في السراي الحكومي امس، وشارك فيها وزراء من «التيار الوطني الحر»، وكذلك حضر جانباً منها قائد الجيش العماد جوزف عون الذي عرض خطة انتشار الجيش في الجنوب، التي افيد بأنها ستعرض لاحقا على مجلس الوزراء لاقرارها.
قال ميقاتي: «إنّه يوم جديد تُطوى فيه مرحلة من أقسى مراحل المعاناة، التي عاشها اللبنانيون في تاريخهم الحديث، لا بل كانت الأكثر قساوة وأملاً. نحن اليوم امام موقف وطني وتاريخي ، ونعيش لحظات إستثنائية نتبصَّر فيها إيجاد حلول جدّية للوضع المأزوم الذي نعيشه. المسؤولية كبيرة وجماعية في حجم المأساة، علينا جميعًا حكومة ومجلسًا نيابيًا وقوىً سياسية التكاتف والانخراط في ورشة الإصلاح وبناء دولة حديثة يتشارك الجميع في تدعيم أسسها. كفانا حروبًا ومآسي وكوارث. واريد ان أقول كلمة من القلب إلى جميع المواطنين في لبنان، لنأخذ العِبَر من المرحلة الصعبة التي مررنا بها خلال الأشهر الماضية».
وتلا ميقاتي قرار مجلس الوزراء، وفيه: «اكّد المَجلس مُجدّداً على قراره رقم 1 تاريخ 11/10/2024 في شقّه المُتعلّق بالتزام الحكومة اللبنانيّة تَنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 تاريخ 11 آب 2006 بمُندرجاته كافّة، لا سيّما ما يتعلّق بتعزيز إنتشار الجيش والقوى الأمنية كافة في منطقة جنوب الليطاني وفقاً للترتيبات المُرفقة ربطاً (Arrangements) والتي صدرت بالأمس ببيان مشترك عن الولايات المُتحدة الأميركية وفرنسا والتي تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من هذا القرار بعد أن أخذ المجلس علماً بها ووافق على مضمونها، كما واستناداً إلى خطة عمليات تضعها قيادة الجيش وترفعها وفقاً للاصول إلى مجلس الوزراء للموافقة عليها قبل المُباشرة بتنفيذها.
ومن جهة ثانية، فإنّ الحكومة اللبنانية، وإذ تُثني على الدّور الذي تَقوم به قوّة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، تُشدّد أيضاً على إلتزامها قرار مجلس الأمن رقم 2749 تاريخ 28/8/2024 لا سيّما لجهة التنفيذ الكامل للقرار رقم 1701، والوقف التام للأعمال العدائية وتحقيق الاستقرار عبر الخط الأزرق. كما تقرّر أيضاً، إبلاغ نسخة عن هذا القرار ومرفقاته إلى مجلس النواب للإطلاع وأخذ العلم».
نداء بري
في اللحظة التي تمّ فيها الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، استنفرت اماكن النزوح، وانطلقت قوافل العائدين من مختلف المناطق اللبنانية الى بيوتهم، ما سبب أزدحاماً خانقاً على طرقات الجنوب والشمال والجبل. وقد سارع رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى توجيه نداء متلفز إلى النازحين لشدّ الرحال والعودة الفورية لإلى مدنهم وقراهم في الضاحية والجنوب والبقاع.
استهلّ بري نداءه قائلاً: «بداية للذي لا يُقاس الوجد والشوق اليه بالأيام والشهور ولا بالسنين والدهور.
للذي شاطرني مثل هذه اللحظة في 14 من آب عام 2006.
لشريك المقاومة والتحرير سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله القائد القدوة الذي منحني منذ اللحظة الأولى لاندلاع العدوان على لبنان أمانة المقاومة السياسية.
فها أنا في مقامه الشريف ومقام إخوانه الشهداء القادة وكل المقاومين، الشهداء من أفواج المقاومة اللبنانية «أمل» و»حزب الله» وسائر المقاومين الشهداء، وشهداء الدفاع المدني في كشافة الرسالة الإسلامية والهيئة الصحية الإسلامية والدفاع المدني اللبناني وشهداء الجيش اللبناني وأكثر من 4000 شهيد من أهلنا جلّهم من النساء والاطفال والشيوخ والإعلاميين الذين بفعل تضحياتهم وعظيم بذلهم وتضامن اللبنانيين ووعيهم، تمكّن لبنان من إحباط مفاعيل العدوان الإسرائيلي الذي أعلن اليوم توقف كرة ناره والبدء بمرحلة جديدة نتظلل فيها بفيء هذه القامات التي ستبقى على الدوام المشعل الذي به نستنير، فلا نضلّ الطريق. وعهدنا للسيد الشهيد ولكل الشهداء أن يبقوا بأسمائهم وسلوكهم ونهجهم خير ما نحفظه ويحفظه الوطن لأبنائه في الحاضر والمستقبل ولن نبدّل تبديلاً».
وتوجّه بالشكر إلى كل من احتضن النازحين في كل المناطق اللبنانية. كذلك توجّه إلى الطوائف والقوى السياسية والحزبية والكتل البرلمانية. وقال: أخاطبكم ونحن نطوي لحظة تاريخية هي كانت الأخطر التي مرّت على لبنان مهدّدة أرضه وشعبه وتاريخه وحاضره وتراثه ومستقبله وثرواته جراء الحرب العدوانية الاسرائيليه التي طالت كل مقومات الحياة في وطننا».
أضاف: «أناشدكم لأنّها لحظة الحقيقة التي يجب أن نستدعي فيها كل عناوين الوحدة من أجل لبنان. فاللحظة ليست لمحاكمة مرحلة ولا للقفز فوق الجراح، ولا للرقص فوق الدماء، ولا لتجاوز التضحيات الجسام الغالية والغالية جداً جداً والتي لا يعوّضها إلّا شيء واحد هو أن نحفظ لبنان واحداً قادراً على الخروج مما تعرّض له الخروج أكثر قوة ومنعة وإصراراً وثباتاً على صنع قيامته وتثبيت دوره كأنموذج في التعايش الواحد بين مكوناته الروحية بما يمثل من نقيض لعنصرية إسرائيل».
وقال: «اللحظة هي امتحان لكل لبناني، امتحان للشيعي قبل أي لبناني آخر، هي امتحان لكل اللبنانيين لأي طائفة انتموا، هو امتحان كيف ننقذ لبنان، وكيف نبنيه، وكيف نعيد الحياة الى مؤسساته الدستورية وفي مقدمها الإسراع بانتخاب رئيس للجمهورية لا يكون تحدّياً لأحد يجمع ولا يفرّق. هو امتحان كيف نحمي لبنان في مواجهة الأخطار التي تتهدّده وفي مقدّمها الخطر الإسرائيلي .اللحظة هي لحظه تحمّل المسؤولية في التلاقي من أجل لبنان ومن أجل الإنسان».
الرهان على الحصانة
إلى ذلك، أبلغ مصدر سياسي رفيع إلى «الجمهورية» قوله: «إنّ التسوية بالصيغة التي انتهت إليها، تحظى بموافقة كلية من قبل لبنان وضمناً من قبل «حزب الله»، ولاسيما أنّ إنضاجها كما هو معلوم، مرّ عبر مصفاة عين التينة، التي عصرتها وشدشدت مفاصلها، بإدارة مباشرة من قبل رئيس مجلس النواب نبيه بري، وطعّمتها بمفردات وملاحظات لتخرج بمضمون لا يتعارض أو يمسّ من قريب أو بعيد بالسيادة الوطنية للبنان».
ورداً على سؤال عمّا إذا كانت تعتري التسوية اي ثغرات، قال المصدر عينه: «الرئيس بري أدار المفاوضات بحنكة عاليه، وكان شديد الوضوح والحزم لجهة تثبيت نص يراعي بالدرجة الأولى مصلحة لبنان، وتنقية التسوية من أي الغام لغوية او بنود تتعارض مع مصلحة لبنان او تمسّ سيادته بأدنى تفصيل. حيث كان يقف عند كل مفردة لغوية وحتى على النقطة والفاصلة. ومن هنا أدّى ثبات الرئيس في هذه المفاوضات والملاحظات التي طرحها بالتنسيق مع «حزب الله»، إلى الخروج بتسوية تلبّي المتوخّى منها لناحية وقف العدوان الإسرائيلي والتنفيذ الكامل والشامل لكلّ مندرجات القرار 1701، من دون زيادة أو نقصان، ونشر الجيش اللبناني وتعزيزه في منطقة عمل القرار بالتعاون والتنسيق مع قوات اليونيفيل».
وعمّا إذا كانت ثمة ضمانات لسريان التسوية بشكل نهائي دون عراقيل، قال: «لبنان ملتزم بالتسوية نصاً وروحاً، ولكن في المقابل يبقى الرهان والمسؤولية على الحصانة الأميركية – الفرنسية لهذه التسوية، في منع إسرائيل من تخريبها بخروقات للقرار 1701، وإدخالها في لعبة المماطلة والتسويف، وخصوصاً في ما يتعلق بانسحاب جيشها من المناطق التي توغّل اليها في الجنوب اللبناني».
إمتحان للبنانيين
تبعاً للإعلان الأميركي – الفرنسي المشترك، فإنّ مسار اتفاق وقف اطلاق النار سالك وآمن في الاتجاه الذي يوفّر الأمن والإستقرار على جانبي الحدود الجنوبيّة، ضمن مهلة محدّدة بستين يوماً، يبدأ عدّادها في ما خصّ الآلية التنفيذيّة للإتفاق اعتباراً من اليوم. على انّه في موازاة ذلك، تنطلق اعتباراً من اليوم أيضاً، مرحلة تنطوي على امتحان كبير لكل المكونات اللبنانية لينجحوا في لملمة آثار العدوان، ويجعلوا مما حصل، رغم الهول الكبير لويلاته ومآسيه، فرصة يتشاركون فيها متحمسين لإعادة إنهاض البلد وإعادة مدّ أنابيب الحياة في شرايينه.
الوجع كبير
الوجع كبير، يقول مرجع كبير لـ«الجمهورية»، «لكن المهمّ الآن، هو الّا يخرج البلد من مأزق العدوان، ليدخل في مأزق داخلي لا يقلّ خطورة عنه، يعلّقه على حبل التوتر العالي. أقول ذلك لأنّني أخشى أن ينحدر الخطاب السياسي إلى سجال بين منطقي الانتصار والانكسار، وهذا ما أحذّر منه كل الأطراف لأنّه لن يؤدي الّا إلى تعميق الفرقة والانقسام. في وقت أحوج ما يكون البلد فيه إلى تلاقي الجميع. فآثار العدوان أصعب ممّا نتخيّل، والخسارات مهولة، والنكبة كبرى تمتدّ على مساحة لبنان كلّه. كلّ ذلك يستوجب من الجميع جهداً، وشغلاً كبيراً وشاقاً في شتى المجالات، وقدراً عالياً من المسؤولية الوطنية والحكمة السياسية، ولاسيما في هذا الوقت».
المحطة الرئاسية
وإذا كانت إعادة إعمار ما هدّمه العدوان الإسرائيلي في مختلف المناطق اللبنانية تشكّل الهمّ الأساس في المرحلة المقبلة، الذي يفترض أن يتسخّر جهد حكومي وسياسي استثنائي في كل الاتجاهات لتوفير مستلزماته، إلّا أنّ محطّة أولى تتقدّم على غيرها من أولويات هذه المرحلة وتتجلّى في إنضاج الملف الرئاسي وانتخاب رئيس للجمهورية.
وعلى ما تؤكّد مصادر موثوقة لـ«الجمهورية»، فإنّ الرئيس بري، وضع ملف الرئاسة الأولى، على سكة الحسم السريع وانتخاب رئيس جمهورية توافقي، إنفاذاً لما سبق ووعد بأنّ حسم الملف الرئاسي هو الخطوة الأولى التي يشكّل إنجازها أولى الواجبات بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي. والتوجّه لدى رئيس المجلس هو أن يتمّ هذا الحسم في غضون فترة قصيرة».
استعجال فرنسي
وكان لافتاً في هذا السياق، ما بدا انّه استعجال فرنسي للحسم الرئاسي، الذي تجلّى في مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى مزامنة الإتفاق على وقف إطلاق النار، بإيفاد الوسيط الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت.
وبحسب معلومات ديبلوماسية موثوقة لـ«الجمهورية»، فإنّ «المبادرة الفرنسيّة منسقة بالكامل مع الأميركيين، حيث أنّ واشنطن وباريس اجتمعا على جهد مشترك، فصله الأول اتفاق وقف اطلاق النار، وفصله الثاني حسم الملف الرئاسي في لبنان على وجه السرعة. واكّدت مصادر المعلومات، انّ إيفاد لودريان تمّ تنسيقه مع المراجع اللبنانية وكذلك مع سفراء اللجنة الخماسية الذين سيلتقي بهم لودريان في مستهل حركة مكوكية له بين الأطراف السياسية في الساعات المقبلة، لبناء توافق على ما يسمّى الخيار الرئاسي التوافقي»، على أن تبدأ هذه الحركة بلقاء مع الرئيس نبيه بري.
الإيليزيه متفائل رئاسياً
وقالت مصادر ديبلوماسية من العاصمة الفرنسية لـ«الجمهورية»، إنّ «زيارة لودريان إلى بيروت اليوم، مختلفة بشكل جذري عن سابقاتها، وخصوصاً انّ الظروف اختلفت بشكل جذري عمّا كانت عليه من قبل، فضلاً عن أنّ الارضية اللبنانية باتت حالياً مهيأة أكثر من ذي قبل للتعجيل في انتخاب رئيس للبنان».
وعكست المصادر عينها «تفاؤلاً يسود الإيليزيه، حيال إمكان نجاح لودريان في مهمته». وقالت: «إنّ توجيهات الرئيس ماكرون تشدّد على بذل أقصى جهد ممكن لإنهاء أزمة الرئاسة اللبنانية قبل آخر السنة الحالية، مؤكّداً انّ باريس، وكما سيكون لها الدور الفاعل في قوات حفظ السلام في جنوب لبنان (اليونيفيل)، ولجنة المراقبة (المتصلة بتنفيذ القرار 1701)، وضمان تنفيذه لتوفير الامن والاستقرار على جانبي الحدود، ستكون، إضافة إلى ما أسّست له في مؤتمر باريس لدعم لبنان، حاضرة بقوّة على خطّ توفير دعم إضافي في ما يتطلّبه من مساعدات تمكّنه من عبور ازمته الصعبة ووضعها على سكّة الإنتعاش».