وقبل التطرّق إلى البحث في قراءة التطورات الدولية، لا بدّ من نظرة سريعة إلى الملف الذي حمله هوكشتاين، وما حكي حول النقاط الخلافية. وبات معلوماً أنّ النقطة الأبرز تتعلق بحرّية العمل العسكري الإسرائيلي بعد وقف إطلاق النار. وعدا عن أنّ هذا البند يصيب السيادة الوطنية في الصميم، فإنّ التوازنات الميدانية لا تسمح لإسرائيل بهذا «الترف».
أما بالنسبة إلى هيئة الرقابة والاعتراض على إشراك ألمانيا وبريطانيا فلقد تمّ حل هذه النقطة. أما موضوع رئاسة اللجنة فستُسند إلى الولايات المتحدة الأميركية ليمثلها ضابط رفيع المستوى من «السنتكوم». وهو ما يُعتبر بمثابة ضمان للبنان في وجه أي تجاوزات إسرائيلية مستقبلاً. أما حول أسباب معارضة وجود بريطانيا فهي تتعلق بحساسيات تاريخية بين طهران وحلفائها وبين لندن. أما الحساسية المستجدة مع ألمانيا فلها علاقة بتبدّل المنحى السياسي مع رحيل أنجيلا ميركل ووصول أولاف شولتز والشكوى من المضايقات والملاحقات التي يتعرّض لها أبناء الجالية الشيعية في ألمانيا. كما أنّ هنالك نقاشاً حول ترسيم الحدود والآلية التطبيقية لبنود التسوية وصولاً إلى إجراء الإنتخابات الرئاسية وإعادة إطلاق العمل على مستوى مؤسسات الدولة وفق ما ينص عليه الدستور، أو بتعبير أدق وفق «اتفاق الطائف». وشكّلت إطلالة الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم مناسبة مدروسة لإعلان الإلتزام بهذه النقاط. ولكن يبقى السؤال ما إذا كانت هذه المستجدات كافية للتفاؤل بإمكانية الإعلان عن موعد قريب لوقف النار؟
في الواقع لا بدّ من استكشاف حقيقة نيات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وأيضاً الظروف الدولية المؤثرة. فعلى المستوى الإسرائيلي تبدو الثقة معدومة بالتزامات نتنياهو. ذلك أنّ اسلوبه التفاوضي في غزة لا يزال ماثلاً في الأذهان، حيث كان يجعل الأمور تبدو وكأنّها أصبحت قريبة جداً من التفاهم على وقف النار ليعمد من بعدها إلى إشعال الجبهات والإندفاع في جولات قتالية جديدة. وكان الوزيران المتطرّفان سموتريتش وبن غفير يساعدانه في «مسرحيته» من خلال رفع صوتهما بالتهديد بالإنسحاب من الحكومة وبالتالي إسقاطها، لتكون ذريعة نتنياهو بعدم قدرته على إجراء تسوية سياسية خشية سقوط حكومته. وفي الأمس ارتفع صوت سموتريتش محذّراً مجدداً.
وثمة أربعة مؤشرات إسرائيلية لا تبعث على الإرتياح:
ـ كيف يمكن تفسير اندفاع القوات الإسرائيلية في عمليات عسكرية هجومية في جنوب لبنان في الوقت الذي كان هوكشتاين يعمّم أجواءه الإيجابية في بيروت؟ ألا يفترض منطقياً أن يتجنّب نتنياهو «المجازفة» بخسائر في صفوف جنوده طالما أنّ الأمور أصبحت في خواتيمها؟ وما الفائدة من كسب مواقع جديدة طالما أنّ بنود التسوية أصبحت معروفة؟
ـ في كلمته الأخيرة أمام الكنيست التزم نتنياهو بأهداف ثلاثة لحربه على لبنان: خلق واقع أمني جديد حسب وصفه، ونزع صواريخ «حزب الله» (الدقيقة)، وإنهاء كل الطرق التي تؤمّن تزويد «حزب الله» بالسلاح، والمقصود هنا الحدود الجوية والبحرية والبرية خصوصاً. ولكن المشروع الذي يحمله هوكشتاين لم يلحظ أياً من هذه النقاط إلّا إذا كان هنالك ملحق سرّي يتمّ التكتم حوله.
ـ هل من المنطقي أن ينجز نتنياهو اتفاقاً كاملاً مع لبنان لإنهاء الحرب الجارية في وقت يثقل كاهله ملف الأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس»؟ ألا يفترض منطقياً أن يشبك هذا الملف مع ملف التسوية في لبنان طالما أنّ الطرف المفاوض الحقيقي هو نفسه، أي إيران؟
ـ خلال الأسبوع الماضي زار وفد إسرائيلي الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في مارآلاغو في فلوريدا، وأعلن أنّ حكومة نتنياهو تريد «إهداءه» قرار وقف النار في لبنان كهدية مبكرة. وبالتالي، لماذا سيقدم ترامب على إعطاء اتفاق الآن سيسجله جو بايدن في سجله وليس دونالد ترامب؟ وهو ما يؤشر إلى أنّ نتنياهو سيسعى لـ«علك» الوقت وإحراقه من الآن وحتى موعد دخول ترامب إلى مكتبه البيضاوي تماماً كما فعل في غزة.
وقد لا تنحصر أسباب التشكيك في النقاط الثلاث التي وردت، فثمة ما يتعلق بالمصالح الدولية والإقليمية. فصحيح أنّ طهران تفضّل إنجاز الإتفاق في لبنان الآن من أجل التخفيف عن كاهلها وطأة الضغوط التي لوّح بها ترامب تجاه اقتصادها، إلّا أنّ حسابات ترامب وموسكو تبدو مختلفة. فواشنطن، وتحديداً المؤسسات العسكرية والأمنية ومراكز صنع القرار، تسعى إلى اتفاق في لبنان يشكّل حجراً إضافياً في سياق ترسيم خريطة جديدة للنفوذ السياسي في المنطقة. وهو ما يعني أنّها تريد إنجاز صفقة كاملة باتت ظروفها ملائمة وتضمّ إلى تل أبيب وبيروت، واشنطن وطهران وموسكو.
فعلى مستوى روسيا، لفت قرار إدارة بايدن بتعزيز دعم واشنطن لأوكرانيا قبل رحيله من خلال إعطاء الضوء الأخضر لكييف لاستخدام صواريخ «أتاكمس» بعيدة المدى لضرب العمق الروسي. وكذلك بتزويد أوكرانيا ألغاماً أرضية مضادة للأفراد، وهو ما سيؤدي إلى المساعدة في إبطاء التقدّم الروسي شرق أوكرانيا. وقد أثارت هاتان الخطوتان بعض الأصوات «الجمهورية»، والتي صنّفتها بأنّها في إطار وضع إدارة بايدن العراقيل أمام إدارة ترامب. لكن البعض الآخر من الجمهوريين رأى فيها أوراقاً تعزز موقع ترامب التفاوضي مع موسكو. ذلك أنّ الكرملين الذي يدرك جيداً حاجة واشنطن له لخلق واقع جديد وثابت على الحدود اللبنانية ـ السورية، يسعى إلى صفقة مربحة جداً تطاول إنهاء حرب أوكرانيا بشروطه وإزالة العقوبات عن اقتصاده وتوسيع دائرة نفوذه في الشرق الأوسط. لكن أوراق بايدن الأوكرانية ستعدّل من «طموح» بوتين، إضافة الى أنّ ترامب قد يعمد إلى إعطاء تركيا الضوء الأخضر للقيام بعمليات عسكرية في الشمال السوري تمهيداً لجعل أنقرة جاهزة لملء فراغ انسحاب القوات الأميركية من سوريا، وهو ما سيزعج موسكو. أضف إلى ذلك أنّ تذرُّع موسكو بالتضحية بعلاقتها الإستراتيجية مع طهران لم يعد مقنعاً كثيراً بعدما ظهرت تباينات بين روسيا وإيران كمثل تعثر المفاوضات بينهما لتوقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية منذ بضعة أشهر.
وفي الوقت نفسه بدأت طهران تتهيّب الضغوط عليها، بدءاً من الضغوط النووية، حيث تعتزم بريطانيا وفرنسا وألمانيا بدعم أميركي تقديم قرار يندّد بإيران لعدم تعاونها مع وكالة الطاقة الدولية وإبداء القلق من التطور السريع لبرنامج طهران النووي. وهذا يعني فتح المجال أمام مزيد من العقوبات والتشدّد في تطبيقها، في وقت تسعى طهران إلى العكس تماماً لإنقاذ اقتصادها المتهالك والذي بات يهدّد استقرارها الداخلي. وهذا ما دفع بوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الى التحذير من هذه الخطوة كونها ستزيد الامور تعقيداً.
وهو ما يعني في اختصار، أنّ لبنان هو جزء من المشهد الكامل في المنطقة. وبالتالي فإنّ التسوية في لبنان تحتاج الى نظرة شاملة بدأ العمل عليها، وحيث أنّ دخول ترامب إلى البيت الأبيض يشكّل خطوة داعمة لإنجاز كل هذا المشهد، وهو ما سيمنح في الوقت نفسه بداية ولايته الرئاسية الثانية بريقاً لم يحظ به أي من أسلافه.
ولهذا السبب هنالك من يعتقد أنّ ما سيحصل هو إنضاج بطيء لطبخة وقف النار في لبنان انتظاراً لبدء ولاية ترامب، إلّا إذا كانت هذه التفاهمات تمّت حياكتها سراً وباتت جاهزة للتطبيق على رغم من عدم وجود مؤشرات إليها.