يمكن اختصار المشهد في الشرق الأوسط بين مشروعَين: مشروع الثورة الإيرانية التي بدأها السيد الخميني في العام 1979، ومشروع 2030 الذي يحاكي العصر والتطوّر والحداثة الذي أعلن عنه الأمير محمد بن سلمان.
ولّدت حرب «طوفان الأقصى» و»حرب الإسناد» التي تلتها، اقتناعاً دولياً بضرورة إنهاء النزاع في الشرق الأوسط بعد تجاوزه لكل الحدود والسقوف، وانتقاله من الحروب الموضعية إلى حرب إقليمية بعمق أميركي ودولي، وخصوصاً بعد أن شكّل الطوفان تهديداً وجودياً لدولة إسرائيل التي دخلت في حرب طويلة وغير مسبوقة في تاريخها، وتريد بأي ثمن أن تختتم معها حروبها الكبرى.
والاقتناع الدولي الذي رسّخته الحرب يستند إلى ثلاثة أهداف يشكّل تحقيقها مدخلاً لإخراج الشرق الأوسط من العنف وعدم الاستقرار:
الهدف الأول، إيران: يستحيل أن يعرف الشرق الأوسط الهدوء والاستقرار في ظل الدور الإيراني الذي لم يَعُد ممكناً التعايش معه، وهو المسبِّب الأساسي للأزمات في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وبين الفلسطينيِّين والإسرائيليِّين، وأي بحث عن حلول لهذه الأزمات هو مضيعة للوقت قبل ردع إيران أو تغيير دورها أو إسقاط نظامها.
وخطورة هذه الأزمات أنّ مسبِّبها هو نفسه، وما لم يتمّ ردعه سيصبح الشرق الأوسط برمّته في حالة فوضى، لأنّ أحد أهدافه التمدُّد من ساحة إلى أخرى، وكل ساحة يتسلّل إليها يُمعِن في تخريبها وتعزيز عناصر عدم الاستقرار لتأبيد الفوضى داخلها، لأنّ مشروعه لا يتحقّق سوى من خلال توسُّل الفوضى، وجوهر عقيدته قائم على نقيض ما هو قائم عالمياً.
ولا يقتصر ضرر الدور الإيراني على الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، إنّما يمنع قيام دول وطنية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وعدم قيام هذه الدول يتسبّب بأزمات إقليمية، ويَشغل المجتمع الدولي سعياً إلى معالجة هذه الأزمات الآخذة في التوسُّع لا الانحسار، وهذا ما يفسِّر حماسة بعض الدول الغربية والعربية على استغلال حرب إسرائيل الوجودية للتخلُّص من الدور الإيراني، لأنّ ما تقوم به تحقيقاً لأمنها الوجودي لم تكن أي دولة لتقوم به، الأمر الذي يشكّل فرصة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وتنظيمه وهندسته.
فلا حلّ لأزمة اليمن قبل ردع إيران، ولا حلّ لأزمة العراق وسوريا ولبنان وفلسطين قبل ردع إيران، فمعالجة الأزمات بالمفرّق يبدأ بعد ردع مَن يُثير الأزمات بالجملة، وتل أبيب تكفلّت بوضع طهران عند حدّها بدعم غربي وعربي.
فالحوثي مثلاً ينتقل، في حال سقوط النظام الإيراني، من المعرقل لأي تسوية وحلّ، إلى المهرول باتجاه أي حلّ ليحفظ رأسه، وهذا ما ينطبق على ميليشيات إيران كلها، وبالتالي المشكلة في الرأس، وقد بدأ التصويب على الرأس، والمواجهة بين إسرائيل وإيران تحوّلت مباشرة في مؤشر إلى نية تل أبيب، وخلفها واشنطن، الوصول إلى تسوية تنهي دور طهران وأذرعها في آنٍ معاً.
ولن تنتهي مفاعيل «طوفان الأقصى» قبل أن ينتهي الدور الإيراني في المنطقة، وعلى رغم من أنّ تل أبيب تكفّلت التنفيذ كونها مُسَّت وجودياً، إلّا أنّ عواصم القرار الغربية والعربية تقف خلفها من أجل وضع حدّ نهائي للدور الإيراني المزعزع للاستقرار، والرسالة الأبلغ جاءت على لسان الموفد الأميركي آموس هوكشتاين ومن عين التينة بالذات: «نعمل على صيغة لإنهاء النزاع إلى الأبد»، وهذا يعني بوضوح أنّ الزمن الإيراني في لبنان والمنطقة انتهى إلى الأبد.
والرؤية التي قدّمها الأمير محمد للمملكة العربية السعودية ستتحوّل رؤية على مستوى الشرق الأوسط برمّته، وستكون الرياض القاطرة والرافعة للعواصم العربية، وسيدخل العالم العربي في نهضة جديدة يطوي معها زمن الحروب وأيديولوجيات الموت، ويفتح زمن العصرنة والحداثة والاستثمارات.
فإنهاء النزاع العسكري لا يكفي إذا لم يترافق مع خطة بديلة لا تترك للفراغ أي مساحة يستفيد منها، وتؤدّي إلى تغيير عميق في الذهنيات السائدة، لأنّ الحرب ليست عسكرية فقط، إنّما فكرية بالجوهر والأساس، وتستدعي القطع مع عقائد الموت والحرب من خلال العمل في اتجاهَين: الاتجاه المتعلِّق بتطوير نمط حياة الناس وعيشها وسط بيئة مستقرة ومزدهرة، والاتجاه المرتبط بتغيير سُلَّم أولوياتها من الحرب والموت، إلى حُبّ الحياة.
فالمناخ السائد في الشرق الأوسط هو الحرب، وكأنّه لم يخرج بعد من الحرب العالمية الثانية، أو أنّه في حرب عالمية ثالثة مستمرة فصولاً، والقطع مع هذه المرحلة يتطلّب إنهاء الدور المولِّد للعنف والمعمِّم له، والاستفادة من إنهائه بهدف نشر الاستقرار والسلام والازدهار.
الهدف الثالث، الدولة الفلسطينية: لا بُدّ من بعد أن يصار إلى كفّ يَد إيران، وإطلاق المشاريع الاستثمارية الضخمة، إنهاء النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي عن طريق قيام دولة فلسطينية، لأنّ عدم قيامها سيُبقي جمر النزاع قائماً وينتظر الظرف الذي يفسح في المجال أمامه لإعادة تجديد دورة العنف.
وتجدر الملاحظة، أنّ المسألة الفلسطينية تكون، بعد الطوفان، قد عبرت إلى المرحلة الرابعة: المرحلة الأولى كان عنوانها النزاع بين العرب وإسرائيل، والمرحلة الثانية النضال الفلسطيني الذي تُوِّج بدولة رام الله، والمرحلة الثالثة توظيف إيران للقضية الفلسطينية في سياق مشروعها التوسعي والتخريبي، ومع نهاية المرحلة الأخيرة تُصبح طريق الدولة الفلسطينية معبّدة في ظل مناخ عربي مشجِّع للسلام والاستقرار والاستثمار، وغياب الدور المزعزع للاستقرار والمموِّل والمسلِّح للحرب، أي إيران.
فلولا الدور السوري والإيراني لكان نجح الرئيس ياسر عرفات في إقامة الدولة الفلسطينية، إلّا أنّ الرئيس حافظ الأسد والسيد علي الخامنئي تكفّلاً بإفشال هذه المحاولة عن طريق العنف والتعبئة، ومع إخراج آل الأسد من نزاع المنطقة، وتطويق دور الخامنئي، تُصبح طريق مبادرة السلام العربية آمنة وسالكة.
لقد حكمت الثورة الإيرانية المنطقة منذ قيامها في العام 1979، واستفادت من أحداث عدة أبرزها هجمات 11 أيلول 2001 لتزيد من توسعها، ولأنّها ثورة معاكسة لمسار الإنسان ومفهوم الدول الحديثة، شكّلت أحداث «طوفان الأقصى» النقطة التي أفاضت الكأس، فاتُخذ القرار الدولي بإنهاء دورها.
ولأنّه لا يكفي إنهاء دور من دون بروز دور آخر، فإنّ رؤية الأمير محمد 2030 للمملكة ستنسحب على مستوى المنطقة، وقد عرف عبر هذه الرؤية طريقة محاكاة العقل الغربي وتحديداً الأميركي، وحوّل الدور السعودي حاجة دولية ومركز استقطاب لدول العالم، وتبيّن أنّ مَن يَحيك السجاد هو الأمير محمد وليس السيد الخامنئي، لأنّه على إثر ردّ الفعل الأميركي غير المبرّر على هجمات 11 أيلول وغضّ نظر واشنطن المقصود عن الدور الإيراني على حساب العربي والخليجي، عرف ولي العهد السعودي كيف يُعيد تغيير الموقف الأميركي وجعله من تلقاء نفسه يقرّ بخطئه ويقترب من السعودية ويعاقب إيران.
وإذا لم تطرأ تطوّرات ليست في الحسبان، وهي مستبعدة، فإنّ مشروع الثورة الإيرانية يكون قد دخل في مرحلة الجزر التي ستؤدّي إلى نهايته الحتمية، فيما مشروع 2030 يكون قد دخل في مرحلة المدّ التي ستُدخِل العرب في عصر جديد، وهذا ما يجعل المنطقة أمام فرصة تاريخية للانتقال من مرحلة النزاعات والحروب الساخنة والباردة والفوضى، إلى مرحلة السلام والاستقرار والازدهار. فالعالم العربي اليوم هو كالعالم الأوروبي، على مشارف وأبواب نهاية الحرب العالمية الثانية.