قد يتمكّن بعض «الغيارى من التغييريِّين» من النقاش في أنّ موجة احتجاجات «17 تشرين» (2019) لا تزال موجودة مع تحوّلها إلى العمل السياسي عبر بقاياها من أحزاب ومجموعات، بعد 5 أعوام من اشتعالها. كما يَصعُب إقناع أحد الموالين لمحور الممانعة/المقاومة، بأنّ المشروع الذي ترأسه إيران تصدّع في المنطقة، وأنّ توازنات إقليمية كبرى قيد التحوّل وليست في مصلحتها.
بدايةً، وحّدت شرارة «17 تشرين» مئات الآلاف من اللبنانيِّين تحت راية مطلب «دولة مدنية» ترعى جميع أطيافها بعيداً من الطائفية وتحاصص زعماء الأحزاب، لكنّها غفلت عن التوحّد تحت راية الحفاظ على شكل لبنان بتعددياته ومكوّناته المتخالفة والمتخاصمة، فسقطت في اختبار الانتخابات النيابية في ربيع 2022، يوم أُطلق عليها رصاصة الرحمة.
هذه الوحدة التي استمرّت من 3 إلى 4 أشهر في شوارع بيروت ومناطق عدة ومدن أخرى، انتهت بمئات المجموعات والحركات السياسية، فتقلّصت إلى عشرات ثم إلى بضع وحدات، لكن يقابلها مئات الأفراد المستقلّين. مستقلون عن ماذا؟ حتى هم لا يعرفون. فظهرت الـ«أنا» في لوائحهم الانتخابية التي رفضها الناس، مفضّلين العودة إلى أحزابهم السابقة لأنّهم لن يتقبّلوا يوماً حكماً توتاليتارياً يسارياً يفرض عليهم الضرائب ويقوّض هويتهم الدينية. فالمجتمع اللبناني ليس مجتمعاً غربياً أو سوفياتياً، إنّما هو مجتمع شرقيّ محافظ.
على المقلب الآخر، انطلق قطار «محور الممناعة» سريعاً مع تحرير الجنوب ثم حرب الـ2006 وبعدها «7 أيار»، قبل الوصول إلى الحرب السورية الداخلية. لكنّ اختبارات التنوّع والتعدّدية في الإقليم كانت سبباً رئيساً لوجود حركات معارضة وأخرى معادية للمحور.
وبدأت رحلة السقوط في 8 تشرين الأول 2023، والرصاصة الأولى على حركة «حماس»، الحليف الفلسطيني لإيران، على وقع «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر. لكنّ مساندة «حماس» ببضعة صواريخ ومسيّرات من الحوثيِّين في اليمن و»الحشد الشعبي» في العراق لم تكن سوى نقشاً في الماء، إذ لم يؤذِ ولم يُشغِل الإسرائيلي عن قصف الحجر والبشر في غزة. فيما كان المستهدف الأبرز «حزب الله» في لبنان، إذ تفاجأ العالم بمدى خطورة الإسرائيليِّين وتوغّلهم مخباراتياً وتكنولوجياً ضدّ «الحزب»، وربما ضدّ كل ما يتصل بإيران وأذرعها العسكرية الإقليمية. فاغتيل أمينه العام السيد حسن نصرالله، كما عشرات القيادات العليا والميدانية، وهُجِّر أكثر من مليون و200 ألف شخص من منازلهم.
لكن في المحصّلة، وبعد بدء «غزو بري محدود» لجنوب لبنان، مَن ساند «حزب الله» من المحور؟ سوريا لم تُحرِّك ساكناً رداً على اعتداءات إسرائيل برياً على قرى في الجولان، أو جوياً إثر قصف عشرات الأهداف داخل أراضيها وعاصمتها دمشق. فيما كانت الضربة الأميركية أمس على اليمن شديدة القسوة واللهجة، بأنّ لا سلاح محرّماً استخدامه لدعم إسرائيل. كما أنّ الردَّين الإيرانيَّين، وعلى رغم من أنّهما أصابا بضع منصات، إلّا أنّهما كانا منسّقين وأنذِر لهما قبل بدئهما. فهل من أحد ينذر عدوّه من أنّه سيقصفه؟
هنا تثبت نتيجة أنّ إيران قد لا تدخل في حرب من أجل أحد أذرعها العسكرية في الإقليم، إنّما يقتصر دورها على مدّهم بالسلاح والمال، وليس بالعسكر. إنّما المتضّرر الأكبر هم أهل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية أولاً، واللبنانيِّون ثانياً.
في تجربتَي «17 تشرين» و»محور الممانعة» ثبُت للبنانيِّين بعد انفجار مرفأ بيروت والحرب الإسرائيلية على لبنان، أن لا بديل لهم إلّا بعضهم البعض. لن يستجيب أحد لنجدتهم بالمأوى والمساعدات وتحقيق مصالحهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية إلّا بعضهم البعض، عبر بناء الدولة القوية والقادرة، وهذا ما أشارت إليه القمة الروحية الاخيرة في بكركي.
فحتى لو أتت أطنان من مساعدات غذائية وطبية من الخارج، لن يؤوي اللبناني غير اللبناني، ولن يحمي اللبناني غير جيشه اللبناني، وهو ما لفتت إليه القمة الروحية عبر ندائها بتطبيق القرار الـ1701 الذي ينطوي على تطبيق القرار 1559، وهنا تشديدٌ على الاستقرار الأمني في الجنوب الذي تجلّى منذ العام 1449 حتى العام 1968، يوم لم يحمل السلاح غير الجيش.
على المستوى السياسي، سقطت «17 تشرين» في مجلس النواب بتقسيماتها وبوصول شخصيّات انقلبت على ناخبيها، فلم تبلور سوى كلام فضفاض وشعارات من الشارع بعيداً من العمل السياسي البرلماني.
في المقابل، وعند بدء موجة الاغتيالات، ارتابت شخصيات سياسية كثيرة من أنّ «الحزب» في وضع صعب، فبدأ التغيير في خطابها السياسي، خوفاً من عصا الخارح. وبذلك، يثبت أنّ «حزب الله» أحاط نفسه بتحالفات بعضها مفخّخ بمصالح وتحاصص المناصب.