عندما قلت في مقال سابق إنّ ما نشهده اليوم من أحداث غير مسبوقة بدمويّتها وفظاعتها، من خلال سياسة القتل المتعمّد للبنانيين من دون تمييز بين مقاتل ومدني، تزرعه الطائرات الإسرائيلية التي لم تتورّع عن استهداف الصحافيين والإعلاميين والمصورين، وطواقم الصليب الأحمر اللبناني والدولي، والدفاع المدني وفرق الإغاثة والمتطوّعين المدنيين، إنّها الحرب المفتوحة، لم انطلق من فرضية هيولية.
إنّ الدولة العبرية تريد أن يكون الشرق الأوسط سدّاحاً مدّاحاً لها، وأن تخضع دوله وشعوبه لسلطانها، ولوعلى حساب حقوقها في أراضيها المغتصبة، وسيادتها الوطنية. وأكرّر أنّ خطة «الترانسفير» لا تزال حاضرة على طاولة قادتها، وهي تعتقد أنّ حسم الحرب في لبنان وبسط سيطرتها العسكرية الميدانية حتى الأوّلي يعدّان خطوة متقدّمة تساعدها في البدء في تنفيذ الخطة عملانياً، لأنّ للبنان الحصة الكبرى منها في حال نجحت بتهجير عرب 1948، وأنّ التهديدات التي توجّهها إلى قوات « اليونيفيل» والمضايقات التي تمارسها في حقّها يومياً ترميان إلى إجلاء الشرعية الدولية عن منطقة عملياتها وفرض وضع جديد على الأرض تتحكّم به، بما يسهّل لها تغيير الواقع الديموغرافي ومنع أصحاب الارض من العودة إليها، وتعبيد الطريق أمام حلمها التاريخي بإفراغ فلسطين من أبنائها العرب. كذلك، فإنّ نجاحها في لبنان إن تمّ، سيجعل من الخيار الأردني متاحاً لها، على رغم من المحاولات الجبّارة التي يبذلها الملك عبدالله الثاني لإحباط أي عملية «ترانسفير» إلى أرضه ووأدها. ولا بدّ من التذكير بالخطر المحدق بمصر في ضوء الكلام الذي ترافق مع بدء حرب غزة عن نيّتها في تهجير ما يزيد على المليون فلسطيني إليها.
وتل أبيب التي تقصف وتدمّر وتهجّر وتقتل وترتكب المجازر التي يندى لها جبين الانسانية تسعى الى:
1- القضاء على حل الدولتين، بعدما رفضت أساساً إقتراح الدولة الديموقراطية في فلسطين التي يعيش فيها العرب واليهود، على أن تكون القدس عاصمة مفتوحة للديانات الثلاث: اليهودية، المسيحية، الإسلامية. وهي لا تريد إلّا دولتها الدينية العنصرية، وتمارس اليوم نظام «الابارتهايد» وتنكّل بالفلسطينيين وتضيّق عليهم في كل مجالات الحياة. وإنّ هذه الممارسة هي في مقدّم الاسباب التي أدّت الى «طوفان الأقصى» والانتفاضات المتتالية في الضفة الغربية.
2- أن تكون إسرائيل دولة خالية من أي وجود غير يهودي.
3- أن تكون لها اليد الطولى في منطقة الشرق الاوسط، بحيث ترسّم لكل دولة من دولها دورها، وتتحكّم باقتصادات هذه الدول وحدود استثماراتها لمواردها الاستراتيجية من نفط، ومياه، وغذاء، ومعادن.
4- أن تمحو من الذاكرة الجماعية العربية اسم فلسطين والأقصى، وتعمل على إزالة ما تعتبره «تحريضاً» على «بني إسرائيل» من المناهج الدراسية، ولا سيّما من مادتي الدين والتاريخ.
هي الحدود التوراتية التي تنهّد إليها تل أبيب، وليس فقط تثبيت سلطتها وسيادتها من البحر إلى النهر. ومن هذا المنطلق يرى بنيامين نتنياهو أنّ الفرصة مؤاتية لتحقيق هذا «الحلم» وأن يحوز على لقب الباني الثاني «LE SECOND BATISSEUR»، للامبراطورية اليهودية بعد ديفيد بن غوريون الذي حقّق حلم الصهيونية العالمية، بجعل وعد بلفور واقعاً على الأرض. لكن هل حلم «بيبي» قابل للتحقيق؟ سؤال كبير يُطرح في ظلّ عجز عربي واضح عن مواجهة جموح نتنياهو وأركان حكومته الذين يحظون بدعم غربي غير محدود، خصوصاً من الولايات المتحدة الاميركية التي نجحت في إخافة العرب من «البعبع» الإيراني، وإقناعهم بأنّ عداوة طهران لهم أخطر من التهديد الاسرائيلي الذي يتربص بهم.
لا إجابة حاسمة مبنيّة على وقائع وارقام، لكن لا بدّ من التوقف عند النقاط آلاتية:
أ- إنّ نجاح المخطّط الاسرائيلي أو فشله يتوقّف على مدى ثبات المقاومات في لبنان وسوريا والعراق واليمن في مواجهته، وإطالة أمد المواجهة لأنّ عامل الوقت ليس في مصلحة تل أبيب. ولا يبدو أنّ هذه المقاومات، ولاسيّما «حزب الله» في لبنان، قد استنفدت الطاقة على المواجهة.
ب- إيران التي أوقفت المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة، هل هي في وارد التخلّي عن هذه المقاومات، وهي أوراق القوة في استراتيجيتها الدولية والاقليمية، لأنّ التخلّي المطلوب لا تساوي عائداته الاستراتيجية: السياسية والاقتصادية عشر ما تكسبه من احتضانها لحلفائها في لبنان، سوريا العراق واليمن.
ج ـ وماذا عن روسيا التي باتت على اقتناع بأنّ دورها سيأتي في حال استطاعت إسرائيل أن تتسيّد على الشرق الاوسط، وهل تظل على وضعيتها الميدانية الحالية في اوكرانيا، أو تعمل على تغيير الواقع في هذه الدولة بما يضمن عمقها الاستراتيجي وأمنها القومي؟
دـ وماذا عن الصين، وهي تدرك أنّ ما يحصل حالياً في لبنان، وما يخطّط لما بعد الحرب على لبنان، هو خطوة في سياق إعداد العدّة لضرب مشروع «طريق الحرير»، وهي وإن لاذت حتى الآن إلى الصمت ما خلا بعض التصريحات المندّدة بالمنحى الذي اتخذته الحرب على وطن الأرز، أرسلت إشارات ذات دلالة، لعلّ أبرزها المناورات على مقربة من حدودها مع تايوان، مرفقة بتصريحات عالية النبرة ضدّ أي محاولة لتثبيت استقلال هذه الجزيرة التي تعدّ محميّة أميركية بامتياز.
ويتضح ممّا تقدّم، أنّ الحرب على لبنان طويلة ومفتوحة على تطوّرات ومفاجآت. فهل تنتهي إلى تسوية مشرفة ومتوازنة، ترضي كل الأطراف، أم نحن أمام شرق أوسط «عبري» بصيغة هشة تؤسّس لحرب الألف عام؟