أثبتت التطوّرات الميدانية خلال الأيام القليلة الماضية على كل جبهات المواجهة مع اسرائيل، أنّ قيادة هذا الكيان استعجلت في تقدير أثر إنجازاتها المرحلية الأخيرة على جهوزية أطراف محور المقاومة وعلى المعادلات الاستراتيجية للحرب، فأتت الضربات التي تلقّتها من كل حَدبٍ وصَوب لتعيدها إلى الواقع وحقائقه.
بعد الزهو الذي شعر به رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جراء النكسات التي تعرّض لها «رأس حربة» مِحوَر المقاومة، متمثلاً بحزب الله خلال المرحلة الأخيرة، وكان أكثرها إيلاماً اغتيال السيد حسن نصرالله، بدا واضحاً من سياق التطوّرات اللاحقة أنّ محور المقاومة ككل، وضمنه الحزب، إلتقط أنفاسه واستعاد حيويته الميدانية مجدّداً.
ويمكن التقاط علامات الاستنهاض في صفوف «المحور» من خلال التزامن بين الأحداث الآتية: القصف الإيراني غير المسبوق في اتساعه وقوّته لقلب الكيان الإسرائيلي، الضربات القاسية التي توجّهها المقاومة إلى جيش الاحتلال في المواجهة البرية عند الحدود الجنوبية معطوفةً على كثافة في الاستهداف الصاروخي لعمق شمال فلسطين المحتلة حتى «المركز»، العملية النوعية التي نفّذتها كتائب القسام في يافا وأدّت إلى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى الإسرائيليِّين، وتلاحق الاستهدافات اليمنية لتل أبيب.
توحي هذه الدينامية المتجدّدة على كل جبهات المواجهة وفي أوقات متقاربة، بأنّ نتنياهو بكّر في الاحتفال بإنجازاته ومحاولة الاستثمار عليها إلى درجة أنّه رفع سقف طموحاته، وبات يتطلّع إلى تغيير الشرق الأوسط وإعادة هندسته وفق المصالح الإسرائيلية.
وهكذا يبدو أنّ نتنياهو عاد عشية ذكرى طوفان الأقصى في 7 أكتوبر إلى المربّع الأول، بعدما تبيّن أنّ الانجازات التي حقّقها خلال عام من الحرب، وعلى أهمية بعضها مثل اغتيال السيد نصرالله واسماعيل هنية، لم تُبدِّل في جوهر الوضع الاستراتيجي الذي أراد تغييره من خلال حملته العسكرية على جبهتَي قطاع غزة والجنوب اللبناني.
وتُظهر جردة حساب بسيطة أنّ نتنياهو لم يتمكّن حتى الآن من القضاء على حركة «حماس» واستعادة الأسرى الإسرائيليِّين لديها وإيجاد إدارة موالية له في القطاع وإعادة المستوطنين إلى مستعمرات غلاف غزة.
على مستوى الجبهة اللبنانية، لم يستطع نتنياهو فصل الجنوب عن غزة وإعادة المستوطنين النازحين إلى الشمال وإبعاد الحزب نحو شمال نهر الليطاني، وضرب القدرات الصاروخية لديه، خصوصاً تلك النوعية.
وعلى صعيد الإقليم ككل، لم ينجح نتنياهو في لجم جبهة الإسناد اليمنية التي تتصاعد وتيرتها على رغم من الغارات الغربية والإسرائيلية التي تستهدف المناطق الخاضعة لسيطرة حركة «أنصار الله».
والأهم أنّ نتنياهو لم يفلح في ردع إيران التي قرّرت أن تُغيّر قواعد اللعبة بعدما شعرت بأنّها تعرّضت لخداع استراتيجي بعد اغتيال اسماعيل هنية عبر حضّها على ضبط النفس وتخديرها بـ«بنج» المسعى الأميركي المفترض للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزة وضرورة إعطائه الفرصة اللازمة، فكانت النتيجة أنّ تل أبيب استغلّت هذه الفسحة لتصعيد عدوانها وصولاً إلى نسف أكثر الخطوط الحمر حساسية باغتيال السيد نصرالله.
هنا، شعرت إيران بأنّها إذا لم تُحرِّك ساكناً فإنّ الدور سيأتي عليها حتماً، عقب ضرب حلفائها في الساحات الأخرى، خصوصاً أنّ نتنياهو بات متفلّتاً من كل الضوابط وصار يطمح بفعل الزخم الذي اكتسبه إلى إعادة رسم توازنات المنطقة على حساب دورها ومشروعها.
وإزاء هذا التهديد المباشر للأمن القومي الإيراني، اعتبرت طهران أنّه بات لزاماً عليها أن تبدأ بتصفية الحساب المؤجّل مع الكيان الإسرائيلي وأن «تتغداه» قبل أن «يتعشاها»، حتى لو كلّفها ذلك الذهاب إلى حرب شاملة، خصوصاً أنّ ما يفعله نتنياهو منذ أشهر هو أساساً كناية عن حرب شاملة بالتقسيط، يُراد لمحور المقاومة أن يبتلعها على جرعات بغية احتواء ردوده قدر الإمكان.
وبناءً على كل هذا السياق، يمكن الاستنتاج أنّ المأزق الاستراتيجي لنتنياهو مستمر، وإن كانت بعض النجاحات الموضعية التي حققها قد غطّت عليه أحياناً.