ليس صحيحاً أنّ بنيامين نتنياهو كان مصاباً أمس بالإرباك، عندما أطلق مواقف متناقضة في ما خصّ العملية العسكرية في لبنان، فانقلب من الإعلان عن وقف للنار إلى التصعيد الكبير. ففي الواقع، نفّذ نتنياهو فور وصوله إلى نيويورك مناورة سياسية أطلق خلالها رسائل مدروسة جيداً.
ثمة إجماع لدى غالبية الخبراء في الشأن الإسرائيلي على أنّ القيادة في إسرائيل اليوم يتولاها غلاة المتطرفين، وفي طليعتهم الوزيران بن غفير وسموتريتش. وفي نظر البعض أنّ هؤلاء المتطرفين يبتزون نتنياهو بإسقاطهم الائتلاف الحكومي إذا لم يستجب لمخططاتهم المتشدّدة التي يعملون لتطبيقها في غزة والضفة. وكذلك، هم يتبنون مقاربة متشددة في مواجهة إيران ونظامها وبرنامجها النووي ونفوذها الإقليمي، ويرفضون أي تسوية «هشة» قابلة للخرق أو الانهيار سريعاً مع «حزب الله» شبيهة بالقرار 1701، ويصرّون على الاستفادة من الفرصة السانحة حالياً للقضاء تماماً على قدرات «الحزب» الصاروخية التي بها يستطيع تهديد إسرائيل في المستقبل، كما فعلت «حماس» فجأة في غزة، يوم 7 تشرين الأول 2023.
لكن نتنياهو لا يعاكس تطلعات هذا الجناح المتطرّف في حكومته، بل على العكس، هو قدّم دعماً له بإضعاف الجناح الأكثر اعتدالاً وإسكاته، ورفع مستوى اعتماده على المتطرفين وتبنّى نهجهم. وهذا ما ظهر في العملية العسكرية الحالية في لبنان.
فموقف الحكومة الإسرائيلية المعلن، الذي تبلّغه الأميركيون وعمل عاموس هوكشتاين على تسويقه، والمدعوم غربياً، يكتفي بطلب وقف النار في لبنان وضمان أمن السكان على الحدود الشمالية، بابتعاد مقاتلي «حزب الله» وصواريخه بضعة كيلومترات في اتجاه نهر الليطاني، وفي أحسن الحالات الخروج إلى ما وراء النهر تنفيذاً للقرار 1701.
لكن ما يفعله الجيش الإسرائيلي حالياً في عمليته العسكرية لا يوحي بأنّه سيكتفي بالطلب المعلن، وإنما هو يرفع السقف لتشمل الضمانات المطلوبة تعطيل أي قدرة لـ«الحزب» على تنفيذ أي ضربة ضدّ إسرائيل، ولو في المستقبل. ولذلك، اتسع نطاق الضربات الإسرائيلية ليشمل خصوصاً مستودعات «الحزب» ومنصاته في بعلبك والهرمل وجبل لبنان، إضافة إلى الجنوب والبقاع الغربي. ويحذّر الإسرائيليون من أنّ هذه البقعة الجغرافية مرشحة للاتساع أيضاً لتشمل المخازن في مناطق أخرى بينها الضاحية الجنوبية، لولا أنّ واشنطن نقلت إلى إسرائيل تحذيرات شديدة اللهجة من مغبة ضرب الأحياء الكثيفة السكان، ما يؤدي إلى وقوع مجازر تفوق هولاً بكثير تلك التي شهدها اليوم الأول من العملية العسكرية.
مقاربة الجناح اليميني الإسرائيلي المتطرّف لـ«خطر» «حزب الله» تقضي بتجريده من كل ترسانته الصاروخية، ولا سيما منها الترسانة الدقيقة، التي يمكن أن يستخدمها ضدّ إسرائيل حتى ولو أقيمت المنطقة العازلة التي يبلغ مداها خط الليطاني، أي إنّ إسرائيل تريد تعطيل الصواريخ التي يصل مداها إلى إسرائيل من وراء خط النهر. وهذا الطلب قاسٍ جداً على «الحزب»، لكن حكومة الحرب الإسرائيلية تصّر عليه.
يظن البعض أنّ نتنياهو يحاول أن يكون «أكثر اعتدالاً» من المتطرفين في مطالبه من «حزب الله» و«حماس»، لكن الواقع يخالف ذلك. فالرجل يستفيد من الفريق المتطرف في حكومته، المتمسك بالحروب والعنف والطروحات الأصولية لسببين: أولاً، لأنّه أساساً قريب من هذه الخيارات، وثانياً، لأنّ هوس الحروب يناسبه تماماً لتحقيق طموحاته الخارجية وتجنّب الاستحقاقات التي يمكن أن يواجهها داخلياً. ولذلك، هو يرتاح إلى التعايش في الحكومة مع هذا الفريق المتطرّف ويبدي بسهولة استعداده للانقياد إلى خياراته.
وبناءً على هذه المقاربة للعملية العسكرية في لبنان، فإنّ نتنياهو الموجود في نيويورك، ويتهافت إليه الوسطاء طالبين إنتاج تسويات في لبنان، يعمد إلى إطلاق بالونات الاختبار ببيانات متناقضة حول وقف النار، وباستدراج للعروض، قبل أي حسم.
ويقول ديبلوماسيون إنّ هدف نتنياهو الحقيقي هو تصعيد القتال على جبهة لبنان حالياً، وبشكل مؤلم، وليس التهدئة، لكي تتمّ مفاوضته خلال إقامته في نيويورك وبعدها «على النار». وهو يريد أن تتكفل الغارات بخلق أمر واقع على الأرض يجبر «الحزب» على خفض سقف مطالبه إلى الحدّ الأدنى. وتؤكّد تجربة غزة أنّ نتنياهو وشركاءه سيقومون بإضاعة الوقت في مفاوضات عبثية، فيما هم يراكمون المجازر على الأرض، لفرض الأمر الواقع.