بات واضحاً أنّ العملية العسكرية التي تنفّذها إسرائيل في لبنان تحظى حتى الآن بتغطية الإدارة الأميركية، ولكن مشروطة بعدم استهداف المدنيين والبنى التحتية أو التسبب بنزاع إقليمي. وهذه التغطية المشروطة تؤشر إلى أنّ واشنطن تخلّت مرحلياً عن موقفها الذي التزمته منذ صدور القرار 1701 في العام 2006، والذي حدّد لإسرائيل خطوطاً حمراً مع لبنان ممنوع تجاوزها.
في تقدير مصادر ديبلوماسية، أنّ نتنياهو استدرج إدارة الرئيس جو بايدن، في شكل انزلاقي وبطيء، لكي يحصل على دعمها في عمليته العسكرية في لبنان، كما دعمته في حربه مع «حماس». وتتصور هذه المصادر أنّ عملية الاستدراج تطورت كالآتي:
على مدى عام كامل من الحرب في غزة، بذل الأميركيون جهوداً مضنية لإقناع «حزب الله» بوقف حرب المساندة لغزة، والدخول في مفاوضات ترسيم للحدود البرية، إذا أمكن. وعندما فشل عاموس هوكشتاين في وساطته، عرض على «الحزب» خياراً أسهل، وهو وقف الحرب والابتعاد بضعة كيلومترات عن الحدود لتطمين إسرائيل وسكان مناطقها الشمالية. وقدّم الوسيط الأميركي ضمانات بأنّ إسرائيل توافق على هذا العرض. لكنه قوبل أيضاً بالرفض للأسباب المعروفة، فجمّد الوساطة.
ولكن، على رغم ذلك، بقي الأميركيون يحرصون على منع إسرائيل من تجاوز الخطوط الحمر مع لبنان، أياً كانت المبررات. وعموماً، التزم الإسرائيليون بذلك، خصوصاً أنّهم كانوا منشغلين بغزة ويفضّلون تأجيل حسم المواجهة مع «حزب الله».
في الأسابيع القليلة الفائتة، تراجع انشغال إسرائيل بغزة إلى أدنى مستوياته. فارتأت حكومة نتنياهو أنّها قادرة على تجميد الوضع مرحلياً هناك، وانصرفت إلى معالجة الثغرة التي تؤرقها على حدود لبنان. وقد ساعد في ذلك دخول الإدارة الأميركية في إرباك الانتخابات الرئاسية، حيث يتبارى الحزبان الجمهوري والديموقراطي على إرضاء الناخبين اليهود ويغرقان في مزايدات التعاطف مع إسرائيل. وحرصت إدارة بايدن على إظهار دعمها القوي لإسرائيل و«أمنها الاستراتيجي» في مواجهة إيران و«حزب الله»، فيما كان نتنياهو يعتمد أسلوب الاستدراج للحصول على دعمها في المواجهة مع «الحزب». وتطور هذا الاستدراج ضمن 3 مراحل.
في المرحلة الأولى، أقنع نتنياهو الأميركيين بأنّه سيراعي الخطوط الحمر مع لبنان، ولن يلجأ إلى الغزو البري للجنوب، ولن يكرّر سيناريو المسّ بالبنى التحتية اللبنانية الذي شهدته حرب تموز 2006، وإنما سيكتفي بضربات وعمليات أمنية «نظيفة» ضدّ «الحزب»، تستهدف الكوادر الميدانيين، ولا تمسّ بالمدنيين. وكان منطقياً أن توافق واشنطن على هذا الخيار لإجبار الحزب على الرضوخ لمتطلبات الحل الديبلوماسي.
ولكن، في المرحلة الحالية التي بدأت مطلع هذا الأسبوع، لم تكتفِ إسرائيل بتوسيع النطاق الجغرافي للحرب على «حزب الله»، وإنما بدأت تتجاهل وجود المدنيين في الأماكن المستهدفة، فأصابتهم بنحو مباشر وعنيف، وفي مناطق لبنانية مختلفة، وتذرعت بأنّ «الحزب» يحمي مواقعه وصواريخه ومقاتليه بالمدنيين. وهذا ما أدّى، في اليوم الأول من هذه المرحلة، إلى سقوط ما يزيد عن 500 قتيل مدني، و1500 جريح.
ومن الواضح أنّ واشنطن لم تُعلن اعتراضها على عملية الاستهداف التي طاولت المدنيين، لأنّ إسرائيل صوّرت لها هذا الأمر كخيار اضطراري. وفي الخلاصة، انزلق الأميركيون من تأييد عمليات التصفية «النظيفة» للمقاتلين والكوادر إلى السكوت عن استهداف المدنيين. ولا تجد إدارة بايدن أنّ الظرف مناسب لمناقشة هذه المسألة مع نتنياهو، على الأقل حتى إمرار الاستحقاق الانتخابي في مطلع تشرين الثاني.
وما تتوقعه المصادر الديبلوماسية هو أن يستغل نتنياهو وفريق عمله هذا الدعم الأميركي بتكثيف الغارات على المواقع والمخازن ومنصات الصواريخ، بنحو عنيف جداً، وفي مناطق مختلفة بينها الضاحية الجنوبية، ليتمكن على الأرجح من دخول المرحلة الثالثة من العملية الحالية، وهي مرحلة التوغل البري، قبل الانتخابات.
طبعاً، هذا التوغل مرفوض في المطلق أميركياً، وهو يمثل الخط الأحمر الذي لطالما تمسكت به واشنطن. وعلى الأرجح، سيتمكن نتنياهو من إقناع إدارة بايدن بأنّه مضطر إلى السيطرة على بعض المواقع في جنوب الليطاني، لضرورات ميدانية. وبعد ذلك، ستتمسك إسرائيل بهذه المواقع لتفرض التسوية التي تريدها من موقع قوة وبضمان دولي.
ويمكن القول إنّ الولايات المتحدة منحت إسرائيل دعماً محدداً لتنفيذ عمليتها العسكرية في لبنان، لكن نتنياهو ينجح يوماً بعد يوم في تحويله «كارت بلانش» يغطي كل عمليات جيشه في لبنان. وهذه الورقة سيصعب على الأميركيين سحبها من يديه حتى إشعار آخر، والأسباب كثيرة.