يشهد لبنان تحولات مهمة في قطاعه المصرفي بعد مغادرة رياض سلامة لمنصب حاكم مصرف لبنان، وتولي نائبه وسيم منصوري مهام الحاكمية بشكل مؤقت. تلك المرحلة الجديدة تأتي وسط تحديات اقتصادية هائلة وضغوط داخلية وخارجية لإصلاح النظام المالي وإعادة بناء الثقة مع المؤسسات الدولية. في هذا السياق، تتصاعد التساؤلات حول مستقبل القيادة المصرفية في لبنان والسيناريوهات المحتملة لإعادة هيكلة مصرف لبنان، بالإضافة إلى تأثير تلك التغييرات على العلاقة بين المصرف المركزي والمصارف التجارية التي استفادت سابقاً من سياسات سلامة. من خلال دراسة السيناريوهات المحتملة، يبرز تحدي الحفاظ على استقلالية المصرف المركزي وتطبيق إصلاحات حقيقية قادرة على انتشال الاقتصاد اللبناني من أزمته الراهنة.
الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور بيار خوري أوضح في حديث لـ”النشرة” إلى أنه بعد مرور سنة على مغادرة رياض سلامة منصب الحاكم وتولي نائبه وسيم منصوري الحاكمية بشكل مؤقت، تبرز عدة سيناريوهات محتملة لإعادة الهيكلة القيادية في مصرف لبنان. منصوري قام بتوسيع التعاون مع المؤسسات الدولية وحافظ بشكل جزئي على سياسات العمل المصرفي التقليدي، ولكن مع استمرار غياب حاكم أصيل، قد يشهد القطاع المصرفي أيضًا تغيرات في القيادة العليا.
هيكلة مصرف لبنان والقطاع المصرفي
يوضح خوري في حديثه لـ”النشرة” أنّ هناك سيناريوهَين اثنين لا ثالث لهما:
السيناريو الأول هو تعيين حاكم جديد يحظى بدعم القوى السياسية المحلية والدولية، وقد يكون هذا الحاكم شخصية تتمتع بخبرة دولية تعزز من الشفافية والتعاون مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي. هذا السيناريو قد يؤدي إلى إعادة توزيع الأدوار على مستوى المجلس المركزي في المصرف المركزي، وربما استحداث مناصب جديدة لتعزيز الحوكمة الداخلية.
السيناريو الثاني هو أن تستمر القيادة المؤقتة بمهامها لفترة أطول، ما يعني أن منصوري سيواصل العمل بسياسات المصرف التقليدية مع بعض التعديلات التي تتماشى مع مطالب المجتمع الدولي. في هذا السيناريو، قد يتم تعزيز دوره داخل القطاع المصرفي وتوسيع صلاحياته بشكل أكبر، ما يسمح له باتخاذ قرارات أكثر استقلالية بعيداً عن السياسات التقليدية التي كان يتبعها سلامة.
ولكن، التعيين الرسمي لحاكم جديد قد يعيد تشكيل العلاقة بين المصرف المركزي والمصارف التجارية، ويؤدي إلى تغييرات في توزيع المسؤوليات داخل المصرف لتتماشى مع المرحلة القادمة التي تتطلب استقرارًا ماليًا أعمق وإصلاحات هيكلية.
السياسات النقدية وتوقيف سلامة
توقيف رياض سلامة، الذي كان ممالئًا بشكل كبير للمصارف التجارية وساهم عبر الهندسات المالية ومنصة “صيرفة” في تحقيق أرباح غير مسبوقة لتلك المصارف، قد يحدث برأي الدكتور خوري، تحولات جذرية في توازن القوى بين المصرف المركزي والمصارف التجارية. سلامة، عبر سياساته، كان يشكل درعًا حاميًا للمصارف، ما أدى إلى تدفق الأرباح إليها دون محاسبة جدية على بعض المخاطر المالية المترتبة على هذه السياسات.
مع توقيف سلامة، سيتغير المشهد المالي، حيث إن القيادة المؤقتة برئاسة وسيم منصوري قد لا تكون على القدر نفسه من الاستعداد لتقديم التسهيلات أو اتباع النهج نفسه في ممالأة المصارف. منصوري، الذي وسّع التعاون مع المؤسسات الدولية، قد يجد نفسه مضطرًا إلى اتخاذ سياسات نقدية أكثر توازنًا وربما أكثر صرامة تجاه المصارف التجارية، خصوصًا في ما يتعلق بمراقبة أصولها وإدارتها النقدية.
هذا يعني أن المصارف التجارية قد تفقد النفوذ الذي كانت تتمتع به حتى اليوم، ما قد يؤدي إلى تقليص أرباحها أو على الأقل تقييد الطرق غير المستدامة التي كانت تستخدمها لتعزيز تلك الأرباح. علاوة على ذلك، منصوري قد يواجه ضغوطًا من الجهات الدولية لتطبيق إصلاحات مالية حقيقية، ما يزيد من احتمال أن المصارف لن تكون قادرة على تحقيق نفس المكاسب التي كانت تتمتع بها في عهد سلامة.
في الوقت ذاته، توقيف سلامة قد يدفع المصارف لمحاولة التأثير أو الضغط لاستمرار بعض الامتيازات التي حصلت عليها في السنوات الماضية. ومع ذلك، فإن تقوية التعاون مع المؤسسات الدولية قد يحد من هذه المحاولات، حيث ستكون القيادة الجديدة مضطرة لمراعاة الشروط الدولية للإصلاح المالي والاقتصادي.
تداعيات محتملة على استقلالية مصرف لبنان
أما التحدي الأكبر فيكمن حسب خوري، في توازن القوى بين المصرف المركزي والسياسات الحكومية والمصرفية. في حال تعيين قيادة جديدة تتمتع بالاستقلالية والمصداقية، فقد تتعزّز سياسات الإصلاح ويقلّ الاعتماد على المصارف التجارية في صياغة السياسات النقدية. هذا قد يؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات باتجاه استقرار اقتصادي شامل بدلًا من التركيز على تحقيق أرباح قصيرة الأجل للمصارف.
من ناحية أخرى، هناك مخاوف من أن تعيين قيادة جديدة مقربة من الأحزاب السياسية قد يؤدي إلى تراجع استقلالية المصرف المركزي وتكرار نموذج سلامة من حيث تقديم الامتيازات للمصارف على حساب الاستقرار المالي. بالتالي، فإن مدى تأثير التغيير في القيادة على استقلالية مصرف لبنان يعتمد بشكل كبير على هوية القيادة الجديدة ومدى التزامها بإصلاح النظام المالي وتعزيز دور المصرف المركزي كجهة مستقلة.
تأثير التغييرات في القيادة المصرفية
وبالنسبة للدكتور وسيم منصوري، الذي وسّع التعاون مع المؤسسات المالية الدولية بعد توليه الحاكمية المؤقتة، يشير الدكتور بيار خوري إلى أنّ تلك الجهات قد تنظر إليه بشكل أكثر إيجابية إذا استمر في تنفيذ إصلاحات جدية تستجيب لمطالب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذه المؤسسات قد ترى في تغيير القيادة فرصة لتنفيذ برنامج إصلاحات شاملة تشمل تنظيم القطاع المصرفي بشكل أفضل، وتحسين الشفافية، والحد من التسهيلات الممنوحة للمصارف التجارية التي استفادت من سياسات سلامة.
من جهة أخرى، إذا تم تعيين قيادة جديدة بعد منصوري تتمتع بمصداقية دولية وتتعاون بفعالية مع الجهات المالية العالمية، فقد يؤدي ذلك إلى إعادة بناء الثقة بين لبنان والمستثمرين الدوليين وصناديق الاستثمار. هذه الثقة قد تساهم في إعادة تدفق رؤوس الأموال، وزيادة الدعم المالي للبنان، خصوصاً إذا تم تنفيذ إصلاحات شاملة تعزز الاستقرار المالي.
على النقيض، إذا لم تتغير السياسات بشكل جوهري أو إذا كانت القيادة الجديدة غير قادرة على استعادة الثقة الدولية، فقد تستمر المؤسسات الدولية في فرض شروط صارمة للحصول على أي تمويل أو دعم مالي. هذا قد يؤثر سلبًا على العلاقات بين لبنان وهذه المؤسسات، مما يعقّد أي جهود لانتشال الاقتصاد اللبناني من أزمته المالية الحالية.