الأكثر إيلاماً، مع دخول الحرب في غزة شهرها الثاني عشر، أن الفلسطينيين، أي الضحايا، لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إلا الصراخ، فيما لا يبدو أحد مستعداً لمراجعة الحساب ووقف حمام الدم الذي يقود الفلسطينيين إلى الكارثة التاريخية الثالثة، بعد كارثتي 1948 و1967.
نتائج الحرب التي تقترب من إكمال عامها الأول واضحة جداً، لكن أياً من الطرفين المتقاتلين لا يجد مصلحة في الاعتراف بها. لا إسرائيل ستعترف لأنها وجدت في الحرب فرصة نادرة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، أي تصفية القضية الفلسطينية بالكامل. ولا “حماس” ستعترف لأن قيامها بذلك يعني إقرارها بخطأ تسببها في حرب غزة، عندما نفذت عمليتها العسكرية الاستثنائية حجماً وتوقيتاً، يوم 7 تشرين الأول 2023.
والكلام على خطأ ارتكبته “حماس” في المبادرة إلى إشعال الحرب باتت تبوح به قوى فلسطينية عدة، وخصوصا في معسكر السلطة الفلسطينية التي بقيت تلتزم الصمت المطبق في الأشهر الأولى، على قاعدة أن المحاسبة بين أبناء القضية الواحدة لا تجوز في زمن القتال مع العدو وسقوط الشهداء. لكن الصمت انكسر في الأشهر الأخيرة، وبات أركان السلطة يتحدثون علانية عن الثمن الغالي الذي يدفعه الفلسطينيون في حرب لا مجال فيها للانتصار، بل إنها ستتسبب بعودة الاحتلال بشراسة إلى غزة. والأسوأ هو أن إسرائيل باشرت في أخذ الضفة الغربية بجريرة غزة، متذرعة بأن “حماس” تنفذ عمليات ضدها هناك وعلى المعبر الرئيسي المؤدي إلى الأردن. وهذا المسار يهدد بإطباق إسرائيل الكامل على المناطق التي حددها اتفاق أوسلو، والتي يتمتع فيها الفلسطينيون بما يشبه السلطة. وعواقب هذا التخطيط الإسرائيلي هي إنهاء الحضور الفلسطيني ديموغرافياً وسياسياً وإدارياً.
وفي جردة حساب السنة الأولى من الحرب يتبين ما يأتي:
خسائر الإسرائيليين بالأرواح تقدر ببضعة آلاف بين قتلى وجرحى، عسكريين ومدنيين، ونحو 125 رهينة.
وأما خسائر الفلسطينيين فقاربت الـ42 ألف قتيل وأكثر من 100 جريح ومعوق ومفقود ونحو مليون نازح، ودمار هائل للمدن والقرى والمنشآت الحيوية والبنى التحتية، وآلاف الرهائن والأسرى. لكن الأهم هو أن ميزان الحرب يميل بوضوح لمصلحة إسرائيل. فحركة “حماس” التي أطلقت حربها قبل عام بعنوان الإمساك بالورقة الفلسطينية وتحسين ظروف الفلسطينيين في المواجهة مع إسرائيل، انتهت اليوم إلى وضع معاكس تماماً. فهي أشرفت على استنفاد قوتها العسكرية، وبات طموحها وقف الحرب، فيما الغزيون ضائعون وتُطرح الصيغ المختلفة لاختيار إدارة جديدة للقطاع. وفوق ذلك، دخلت الضفة الغربية في مسار قد يكون شبيهاً بمسار غزة، ما زاد في ترهل السلطة الفلسطينية التي كانت في الأساس عاجزة عن القيام بأي مبادرة ذات شأن.
وفي الخلاصة، إن عملية “طوفان الأقصى”، النوعية بنتائجها (مع الاشارة الى عدم ثبوت العدد الحقيقي للقتلى الإسرائيليين فيها)، جعلت الفلسطينيين و”حماس” والسلطة الفلسطينية في موقع الأكثر ضعفاً وإرباكاً سياسياً وعسكرياً وأمنياً وإدارياً ومالياً، إلى حد الخطر الشديد، بحيث يمكن القول إن القضية الفلسطينية مهددة بالاضمحلال لأن القيمين على شؤون الفلسطينيين خسروا النذر القليل من القوة، الذي كان باقياً لهم بعد أوسلو.
وإذا كان بديهياً أن تنتهي الحروب بتسويات أو اتفاقات أو معاهدات، فإن الاتفاق الذي ترتقب ولادته بعد انتهاء الحرب في غزة والضفة – ذات يوم لا يمكن تحديده- سيكون حتماً لمصلحة إسرائيل وأشد ظلماً للفلسطينيين من أوسلو وسائر الاتفاقات السابقة.
لذلك، إسرائيل لا تستعجل حسم الحرب في البقعة الفلسطينية. فالوقت في خدمتها. والفرصة التي أتاحتها “حماس” عندما نفذت عمليتها التاريخية ستتمسك بها إسرائيل لكي تحقق أهدافها التاريخية، لا في غزة وحدها بل أيضاً في الضفة الغربية التي انتقلت إليها الشرارة في شكل مثير للجدل.
هل إن عقل “حماس” العسكري والأمني والسياسي كان يقدّر ما يدور في رأس الإسرائيليين في شأن غزة والضفة وكل فلسطين، خصوصاً أن الممسكين بالسلطة اليوم هم جماعة اليمين واليمين المتطرف، التي يصنف بنيامين نتنياهو “معتدلاً” داخلها، والتي تمارس السياسة وفق رؤيتها الدينية الأصولية، حيث الهدف هو “أرض إسرائيل”؟
إذا لم تكن “حماس” تدرك هذه المخاطر، فإنها بغير تقدير منها، أحدثت ثغرة تتيح للإسرائيليين أن ينفذوا مخططاتهم التوسعية الخطرة ضد الفلسطينيين. وأما إذا كانت تدرك هذه المخاطر فعلاً، وقد تعمدت تحدي إسرائيل بعملية “طوفان الأقصى” على رغم من ذلك، فهذا يعني أنها ارتكبت خطأ في التقدير من نوع آخر، ستكون له عواقبه القاتلة على القضية الفلسطينية… إلا إذا فاجأت الحركة كل المعنيين، وقلبت المعادلة العسكرية والسياسية في لحظة معينة، في غزة والضفة، ورجحت الكفة لمصلحة الفلسطينيين. وهذا الاحتمال يبدو صعباً جداً إلى حد الاستحالة، حتى الآن على الأقل.