في خطوة تهدف إلى إنهاء الجمود السياسي في فرنسا، فضّل رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون الالتفاف على تحالفه مع اليساريِّين في الانتخابات التشريعية الأخيرة وتسمية ميشيل بارنييه، السياسي اليميني والمفاوض السابق للاتحاد الأوروبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد (بريكست)، كرئيس جديد للوزراء.
جاء تعيين بارنييه بعد حوالي شهرَين من الانتخابات التشريعية المبكرة التي لم تُسفِر عن فائز واضح، لكن بتفوّق يساري-وسطي في عدد المقاعد نتيجة التحالف الذي أبرِم بين متخلف الأحزاب المرتابة من تقدّم اليمين المتطرّف في فرنسا. وأعلنت الرئاسة الفرنسية أنّ بارنييه كُلِّف بتشكيل “حكومة وحدة” لخدمة البلاد والشعب الفرنسي. وأثارت هذه الخطوة غضب التحالف اليساري، أي “الجبهة الشعبية الجديدة” الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات لكنّه لم يصل إلى الأغلبية اللازمة.
وواجه ماكرون انتقادات حادة بسبب تأخّره في تعيين رئيس للوزراء، إذ قضى أسابيع في مشاورات مع القادة السياسيِّين بحثاً عن شخصية تحظى بدعم واسع. وعلى الرغم من ذلك، استمرّ رفض المرشحين المحتملين من قِبل المعارضين. فجاء بارنييه (73 عاماً)، عضو الحزب الجمهوري، ليُثير غضب اليسار الذي كان قد قدّم مرشحته، لوسي كاستيه، لكنّ ماكرون رفضها.
وأوضح بيان الرئاسة أنّ ماكرون أجرى مشاورات غير مسبوقة لضمان استقرار الحكومة الجديدة والحصول على أكبر قدر من الدعم. وعلى الرغم من فوز “الجبهة الشعبية الجديدة” بأكبر عدد من المقاعد، إلّا أنّ أيّ حزب أو تحالف لم يتمكن من الحصول على الأغلبية المطلقة (289 مقعداً)، ممّا ترك فرنسا من دون حكومة واضحة المعالم. لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة قبل 66 عاماً، وبقِيَت فرنسا أكثر 50 يوماً من دون حكومة فعالة، ممّا زاد من حالة الجمود السياسي.
يُعرَف بارنييه بمهاراته التفاوضية التي برزت خلال مفاوضات بريكست، لكنّه الآن أمام تحدٍّ آخر يتمثّل بضرورة إيجاده ورئيس الجمهورية أغلبية برلمانية فعالة، خصوصاً مع فقدان تحالف ماكرون الوسطي عدداً من المقاعد، بينما حقق حزب “التجمّع الوطني” اليميني المتطرّف، بقيادة مارين لوبان، مكاسب كبيرة.
في تحوّل غير متوقع، وجد ماكرون نفسه مضطراً للتفاوض مع لوبان لضمان قبول حزبها بمرشح يميني مثل بارنييه، إثر رفضه التحالف مع اليسار على الرغم من فوزه في الانتخابات. وأثار الاتفاق مع اليمين المتطرّف انتقادات من “الجبهة الشعبية الجديدة” التي اعتبرت أنّ مرشحتها كاستيه هي المرشحة الشرعية.
على وقع التعيين، دعا اليسار إلى تنظيم مظاهرة كبرى ضدّ ماكرون في العاصمة باريس، معقل الأجانب المجنّسين الموالين لليسار واليسار الراديكالي. فيما بدأ حزب “فرنسا غير الخاضعة” إجراءات لعزل الرئيس بتهمة رفضه قبول نتائج الانتخابات التشريعية، على الرغم من أنّ هذه المحاولة تواجه احتمالات ضئيلة للنجاح.
خلال دورة الألعاب الأولمبية 2024 التي استضافتها باريس، دعا ماكرون إلى هدنة سياسية، ممّا خفّف من حِدّة الضغوط عليه لفترة قصيرة. بيد أنّ الغضب تفاقم ضدّ الرئيس الفرنسي في الأسابيع الأخيرة، خصوصاً بعد أن قرّر في حزيران حَلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات مبكرة نتيجة فوز الأحزاب اليمينية بالانتخابات الأوروبية عن فرنسا، وهو قرار أثار استياء الحكومة والشعب الفرنسي.
وحذّر النواب من أنّ استمرار غياب الحكومة سيعقد تمرير الموازنة بحلول نهاية العام، كما هو مطلوب قانونياً. وفي ظل حكومة تصريف الأعمال، لم يكن بإمكان حكومة غابرييل أتال المنتهية ولايته اتخاذ قرارات مهمة.
نشأ بارنييه، في منطقة سافوا في جبال الألب الفرنسية، وانتخب لأول مرة في البرلمان عام 1978. وخلال التسعينات وأوائل الألفية، شغل عدة مناصب وزارية في حكومات يمينية، بما في ذلك مسؤوليات البيئة، الشؤون الأوروبية، الخارجية والزراعة. واستمرّت مسيرته السياسية على المستوى الأوروبي، فكان مفوّضاً في الاتحاد الأوروبي، ثم المفاوض الرئيسي للاتحاد في ملف خروج بريطانيا.
ويُعَدّ تعيين رئيس الوزراء من صلاحيات الرئيس وفقاً للدستور الفرنسي، ولا يوجد موعد نهائي محدّد دستورياً لذلك، وعادةً ما يتم التعيين بعد الانتخابات البرلمانية في غضون أيام أو أسابيع على الأكثر. لكنّ ماكرون تأخّر في اتخاذ القرار في ظل صعوبة العثور على شخص يمكنه الصمود أمام تصويت حجب الثقة في الجمعية الوطنية المنقسمة.
وكان ماكرون مدفوعاً بإصراره على تحقيق الاستقرار وضمان تنفيذ إصلاحاته الاقتصادية الرئيسية، بما في ذلك رفع سنّ التقاعد القانونية من 62 إلى 64 عاماً. لكنّ المعارضة اليسارية تعهّدت بإلغاء هذه الإصلاحات وغيرها التي يعتقد ماكرون بأنّها جعلت الاقتصاد الفرنسي أكثر تنافسية، مثل خفض الضرائب.
في المقابل، رأى الخصوم السياسيّون أنّ ماكرون كان ملزماً ديمقراطياً، بعد هزيمة حزبه، بالسماح للبرلمان بمناقشة هذه القضايا واتخاذ القرار بشأنها. لكن في النهاية، تغلّب انعدام الثقة في اليسار على رفضه لليمين المتطرّف، ممّا عزّز الصورة العامة لماكرون كشخص يعتمد بشكل كبير على حُكمِه الشخصي.
في حديث لبرنامج “كوتيديان”، أوضح الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، الاشتراكي وسلف ماكرون، إنّ “إيمانويل ماكرون يعتقد أنّه سيحل مسألة الحكم بنفسه. أعتقد أنّه يرتكب خطأً لأنّ الأمر يعود للجمعية الوطنية لاتخاذ القرار”.
كان ماكرون يتمتع بحرية أكبر في اختياراته السابقة لرؤساء الوزراء، مثل إدوار فيليب في 2017، جان كاستكس في 2020، إليزابيث بورن في 2022، وغابرييل أتال في كانون الثاني الماضي، وذلك لأنّ حزبه كان يُهَيمن على الجمعية الوطنية أو يمتلك عدداً كافياً من المقاعد لحماية الحكومة من تحدّيات برلمانية كبيرة.
خلال الفترة الطويلة التي سبقت تعيين بارنييه، أعلن إدوار فيليب، السياسي اليميني الوسطي، ترشحه إلى الانتخابات الرئاسية في 2027، التي ستُحدِّد خليفة ماكرون الذي لن يستطيع الترشح مرة أخرى بسبب قيود دستورية تُحدِّد فترة الرئاسة.