تردد أخيراً في بعض الاندية الديبلوماسية والسياسية ان هناك من يسعى الى الفصل بين الاستحقاق الرئاسي وبين ما يجري في المنطقة. وهو أمر سيؤمن في حال تحقيقه العبور ببوابة اجبارية مدخلها وقف النار في الجنوب بمعزل عما ستؤول إليه التطورات في غزة. والى صعوبة هذا السيناريو إن لم يكن مستحيلا ، فان معظم المواقف تعزز الشكوك بامكان الوصول الى هذه المرحلة مهما قطع من تعهدات وعلى اي مستوى. وهذه بعض المؤشرات الدالة؟
تفاءل اللبنانيون ببعض الروايات والسيناريوهات التي ترددت في الايام الاخيرة الماضية عن محاولات يقوم بها بعض سعاة الخير من الديبلوماسيين الذين تعهدوا بمساعدة اللبنانيين على تقصير مهلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها كما بالنسبة الى خفض التصعيد في الجنوب بمعزل عن التطورات القائمة في قطاع غزة قبل ان تتفلت الأمور ويتوسع العدوان في اتجاه مدن الضفة العربية ومخيماتها ومستشفياتها. ومعهم بعض السياسيين الذين اطلقوا مجموعة من المبادرات الهادفة الى تسهيل انتخاب الرئيس العتيد بمعزل عن مجموعة خرائط الطرق المطروحة توصلا الى هذه الغاية بكل اشكالها والآليات المقترحة والتي لم يتحقق هدف اي منها فتهاوت بكل اشكالها ومستوياتها واحدة بعد أخرى.
على هذه الخلفيات، يمكن النظر الى مجموعة المبادرات الاخيرة التي تحدث عنها بعض سفراء الخماسية الخاصة بلبنان ومعهم عدد من الأقطاب السياسيين على أنها من باب المبارزة السياسية التي تفتقر الى الافق التنفيذي طالما ان بعضها لم يلقى التجاوب المطلوب من الطرف الآخر. ولذلك فقد بقيت جميعها على لائحة المشاريع التي تنتظر الحد الادنى من الإجماع المفقود. وهي مجموعة من الأفكار التي طرحت منذ فترة طويلة سبقت الانفجار العسكري في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان قبل أحد عشر شهرا وصولا الى ما سبق وتلى تجديد رئيس مجلس النواب نبيه بري دعوته الى الحوار او التشاور لأيام معدودة يصار خلالها الى الاتفاق على مرشح واحد او لائحة مصغرة من المرشحين يذهب بعدها النواب الى جلسة انتخابية تليها دورات متتالية مضمونة النصاب القانوني حتى اتمام المهمة.
وانطلاقا من هذه المعطيات، التي ما زالت قيد التداول في عدد من الصالونات السياسية المحلية والاقليمية والدولية مصحوبة بمشاريع مختلفة تتناول كيفية انهاء السباق القائم بين الخيارات الديبلوماسية والعسكرية في شأن ما يجري في قطاع غزة وجنوب لبنان بعدما قادت الشروط المتداولة في السر والعلن – على رغم من النفي العلني لمثل هذه المعادلات المعقدة – الى الربط في ما بينها ونتائج الاعمال العسكرية التي ما زالت مفتوحة على مصراعيها في اتجاهات مختلفة وصولا الى القول ان كل الامور الداخلية في لبنان لا زالت معلقة الى حين وقف النار في غزة والاطمئنان الى الحل السياسي المتوافق عليه بما يضمن انتصار المقاومة في نهايتها، لأنه وفي حال العكس ستكون هناك امورا مختلفة جدا، وكل ما عدا ذلك يظهر أنه من باب التذاكي والضرب في الرمل طالما ان نتائجها لا تحاكي سوى ما هو من باب الاماني كما الرغبات.
وانطلاقا من هذه الملاحظات التي لا تخضع للنقاش – الا من باب الجدل السفسطائي الذي لا جدوى منه – يبقى من المهم جدا انتظار ما ستسفر عنه الإتصالات الجارية بين بيروت والرياض وربما في عواصم اخرى معنية بملفات لبنان، على قاعدة البحث عن الرئيس المفقود في ظل الظروف الراهنة بعيدا مما يجري في المنطقة وصولا الى الانتخابات الاميركية والهموم الدولية المرتبطة بازمات كبرى تشابكت فيها المصالح الى الذروة من دون تمنين النفس بخطوات عملية يمكن ان تسفر عن اي خطوة عجائبية طال انتظارها. ذلك ان هناك ما يكفي من الدلائل على صعوبة الوصول الى مرحلة الانفراج التي يتمناها أصحاب النيات الحسنة، فيما هناك من يدرك ان كل هذه الاستحقاقات مؤجلة الى حين جلاء الخيط الابيض من الخيط الاسود على مستوى المنطقة والعالم ومن يعتقد غير ذلك فهو واهم وقد تعددت التجارب التي تثبت هذه الوقائع ولا حاجة الى التذكير بها في كل مقام ومقال.
وبناء على ما تقدم، لم يعد خافيا على أحد ان المبادرة التي نسبت الى الخماسية العربية والدولية ما زالت غامضة ولم يؤكدها بعد اي طرف من اطرافها الخمسة. فهم يدركون اعماق الحقائق الخافية على اكثرية اللبنانيين ويدركون انه ليس الوقت لمجرد التفكير في الموضوع حتى هذه اللحظة. وهم يستندون الى سقوط التجارب السابقة التي طرحت في مراحل يمكن اعتبارها ذهبية وقد عبرت من دون ان يتحقق اي شيء منها بمعزل عن الشروط الداخلية المعطلة وعجز الاطراف الخارجية عن ابتداع المخارج. فكيف اليوم وقد تعددت التوجهات التي انعكست على الداخل اللبناني، فالازمات الكبرى في المنطقة باتت اسيرة الخلاف بين الأحلاف الدولية المتورطة في أحداث غزة وانعكاساتها على مجموعة الساحات البرية والبحرية، وصولا الى أوكرانيا ومنها امتدادا الى ما يجري في بحر الصين وكوريا الشمالية ومحيطها حيث المواجهات التي تسببت بأزمات انعكست على المصالح الحيوية للقوى الكبرى، وصولا إلى المس بامنيها القومي والاقتصادي العالمي إن بقيت التهديدات تحيط بمنابع الثروات النفطية والمعابر البحرية الدولية وخطوط الغاز والطاقة العابرة للقارات المهددة عدا عن الثروات الطبيعية التي فتحت الشهية على مزيد من الحروب والنزاعات في بعض منابعها الكبرى.
على هذه الاسس يبدو من الصعب ان تنتهي المساعي الجارية الى فكفكة اي من العقد الداخلية، ولا سيما منها ما يتصل باستحضار الرئيس الذي تحتاجه البلاد قبل دخول المنطقة مرحلة المفاوضات التي لا يكتمل عقدها بما يعني لبنان في غيابه. فلا السلطة التشريعية ولا التنفيذية يمكن ان تكون بديلا من وجود رئيس للجمهورية بما انيطت به من صلاحيات لصيقة لا يمكن تجييرها الى اي شخص او مؤسسة او سلطة أخرى، وهي مهمة التنسيق بين السلطات متى اكتمل عقدها لتستعيد صلاحياتها الدستورية الكاملة.
وعليه فإن الاستمرار في طرح السيناريوهات المتناقضة التي يستحيل التوافق عليها، ستبقى الأمور معلقة الى مرحلة لا يستطيع أحد من الآن رسم خريطة الطريق المؤدية الى نهاياتها. فلا الدعوة الى الحوار الذي يتمناه بري مقبولة بالمواصفات التي حددها، ولا العودة الى ما يقول به الدستور ـ الذي يخضع لتفسيرات أفرغته من مضمونه – واردة في ظل موازين القوى الداخلية المختلة بعد أن تجاوزته بعض الإجراءات التوافقية واستبيح في أكثر من محطة. وطالما ان القوة القادرة على كسر الاصطفاف السلبي القائم ما زالت غائبة عن الساحة الداخلية، وأن موازين القوى لم تسمح بعد بتقدم او سيطرة قوة على اخرى، فان حال الإهتراء والشلل تتفاقم يوميا ومعها الإنهيار المتمادي على اكثر من مستوى وأن الأمور جارية بلا العودة إلى اي من القواعد الطبيعية التي نسيها اللبنانيون وباتت الأمور رهن المفاجآت المنتظرة وهي قليلة ونادرة الوجود. وان بقي الرهان عليها فنعمة الانتظار من شروط ادارة اللعبة وهي من المرغوب التمسك بها الى ما لا نهاية.