مؤشرات عدة تنبىء بوجود تحضيرات ناشطة لترتيبات كبيرة على مستوى الشرق الأوسط وتطاول لبنان. فالهدوء النسبي القائم مقارنة بالزلزال الذي يضرب المنطقة منذ أقل من عام يوحي بوجود حركة ناشطة في كواليس التفاوض.
فأن تتأخر إيران وتتمهل في ردها الذي أعلنت عنه ردا على الصفعة التي تلقتها من خلال إغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في قلب مقر الحرس الثوري في طهران، إنما يعطي الدلالة على وجود مستجدات كبيرة ألزمتها بهذا السلوك المتأني. فالرد الإيراني حتى ولو حصل لاحقا فلا يبدو أنه سيحصل عسكريا بل على الأرجح أمنيا وبأسلوب إستخباراتي وليس عسكريا كما توحي الأمور.
وما عزز هذا الإعتقاد الرد الإنتقامي الذي تولاه حزب الله منفردا والذي جاء مدروسا ومدوزنا بدقة. والأهم ما ورد في الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله من تطمينات دعت الى التخفيف من حال القلق الداخلي ولا سيما في الضاحية الجنوبية. وبالفعل عادت وتيرة المواجهات العسكرية في الجنوب الى مستواها السابق وتحت سقف منخفض ما يوحي بوجود اقتناع بضرورة تحاشي الكلفة الكبيرة للمواجهة العالية السقف. وبالتأكيد ما كان ذلك ليحصل لولا وجود مستجدات مطمئنة في كواليس التفاوض والتي تكون طهران أحد محاورها الرئيسية إضافة الى واشنطن بطبيعة الحال.
فعدا المرحلة الصعبة والدقيقة الناتجة من مستجدات الحرب القائمة في غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان وبحر الخليج فلا بد من أن تكون حسابات طهران تلحظ التطورات المثيرة للإنتخابات الرئاسية الأميركية والتي ستؤدي نتائجها الى مسارين مختلفين لنهجين متناقضين، واحد مع بقاء الحزب الديموقراطي في البيت الأبيض، وثان في حال عودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب صاحب السلوك المثير للجدل والذي يراهن عليه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
ومن هذه الزاوية يمكن قراءة شد الحبال القاسي القائم بين البيت الأبيض اللاهث وراء “إنجاز” وقف لإطلاق النار والإندفاع في اتجاه تسوية سيضيفها الى أوراق الحزب الديموقراطي الإنتخابية وبين نتنياهو مستميت لعدم تحقيق أي إنجاز تسووي قبل فتح صناديق الإقتراع بهدف مساعدة حملة ترامب. وما يشجع نتنياهو على موقفه هذا الإنعكاس السلبي الذي نالته حملة كامالا هاريس إثر الإعلان عن مقتل ستة رهائن من بينهم رهينة أميركية. وقد انبرى ترامب على الفور قائلا بأنه لو كان رئيسا لما كان كل ذلك ليحصل.
واستطرادا فإن طهران تدرك أن أي خطأ في الحسابات قد يؤدي الى تفاقم التوتر في علاقاتها بالبيت الأبيض ما يدفعها للعناية في كيفية درسها لتأثير قراراتها وخطواتها على المشهد الإنتخابي الأميركي. فقبل أيام معدودة أعلن الرئيس الإيراني والذي يحظى بدعم وتنسيق مع مرشد الثورة خامنئي أن إقتصاد بلاده في حاجة ملحة الى مئة مليار دولار من الإستثمارات الأجنبية. ولا حاجة للقول أن هذه الإستثمارات الضخمة لا يمكن تأمينها سوى من الشركات الأميركية والأوروبية العملاقة إضافة الى دول الخليج العربي. ولكن هنالك العقوبات المفروضة، وبالتالي هنالك تفاهمات مسبقة لا بد أن تحصل والتي يبقى ممرها الحزب الديموقراطي الأميركي لا ترامب الذي تباهى دائما بأن خزائن إيران فرغت من الأموال خلال فترة حكمه السابقة. ولا تكمن المشكلات هنا فقط، بل بالتحديات التي باتت تواجهها طهران في أماكن أخرى ومع دول من المفروض أن تكون أقرب اليها.
ففي خطوة نادرة بين “الحليفين” إستدعت وزارة الخارجية الإيرانية السفير الروسي المعتمد في إيران ردا على تصريحات كان قد أطلقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تتعلق باتفاقات معابر الحدود والتي تطاول أذربيجان. ولا شك في أن خطوة الإستدعاء تعكس انزعاجا كبيرا وله علاقة بالنزاع المكبوت الدائر في آسيا الوسطى حيث تتشابك وتتعارض المصالح بين كل من موسكو وبكين وطهران. وهذا المشهد الذي تراقبه واشنطن بدقة في إطار نزاعها الكبير مع موسكو وبكين، ما يدفع تلقائيا الى السعي لدعم موقف طهران في إطار التشويش على مصالح روسيا والصين. وصحيح أن حجم المصالح كبير في آسيا الوسطى لكن “النفور” الإيراني له امتداداته على الساحة السورية حيث ظهرت بوضوح التباينات الإيرانية والروسية منذ إندلاع الحرب في غزة. وهذه التعقيدات المتشابكة تنعكس بطريقة أو بأخرى على الساحة اللبنانية طالما أن هنالك ما يعرف بوحدة مسار “محور المقاومة”. ولأن الظروف فرضت حسابات متأنية وليونة لطالما إشتهرت بها السياسة الإيرانية، فإن العودة الى سقف مخفوض للحرب الدائرة في جنوب لبنان ولو من دون إقفال ملف الحرب. وقد يكون وقف إطلاق النار الذي وعدت نفسها به إدارة جو بايدن وعلى أساس ممارسة أقسى أنواع الضغوط الممكنة على إسرائيل، هو الذي دفع بالعواصم الخمس المنضوية في إطار اللجنة الخماسية لإعادة تنشيط حركتها، وعلى أساس أن تكون في وضع “stand by” ما يسمح لها بعدم إضاعة الفرصة في حال التوصل الى جديد في غزة.
ووسط هذه الظروف تحركت أوراق لبنانية بنحو مفاجىء بعدما كان ساد اعتقاد بأنها ستبقى نائمة تحت المياه الراكدة. فتوقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان المركزي رياض سلامة طرح كثيرا من علامات الإستفهام. وكان لافتا أن تتهافت السفارات الكبرى للإستفهام عن الخلفيات الحقيقية لتوقيف سلامة. ووفق ما تم التوصل إليه فإن المدعي العام التمييزي بالإنابة القاضي جمال الحجار إتخذ قراره من دون مراجعة أحد. ووفق المعلومات المحدودة التداول فإن الحجار كان على تواصل في هذا الملف مع قاضيين آخرين فقط لهم علاقة مباشرة بالملف، وعلى رغم من ذلك لم يبلغ اليهما نيته إصدار مذكرة التوقيف. وهو ما يعني أنه اتخذ قراره إنطلاقا من معطيات الملف ومن دون أي خلفية كما حاول البعض أن يشيع.
وخلافا لما ردده البعض من أن الهدف هو حماية سلامة من استدعائه الى محاكم أجنبية فإن قرارا بمنع السفر كان متخذا منذ فترة بحق سلامة ما سيمنعه من الذهاب الى عواصم أوروبية لمحاكمته، وبالتالي لم يكن وضعه أساسا يسمح بتسليمه الى أي بلد آخر. لكن ما حصل فتح أبوابا كثيرة سيصعب إغلاقها وسط الظروف التي يمر بها لبنان، وستكون لها تداعياتها السياسية من دون أدنى شك.
والسؤال الأول الذي يطرح هو أن رياض سلامة والذي خرج من وظيفته إختار البقاء في لبنان وعدم السفر خارجا. ما يعني أن الرجل وجد نفسه في أمان أكثر في بيروت وهو الذي لا بد أن يكون إحتسب بدقة عالية المكان الأفضل لبقائه. واستطرادا فلا بد من أن يكون حظي بحماية ما من جهة ما سمحت له بالسكن بحرية في بيروت ومن دون قلق على وضعه. وهو السبب نفسه الذي دفعه للذهاب الى جلسة التحقيق حتى من دون وكيل قانوني يتولى مرافقته. هي ثقة زائدة بوضعه إتخذها شخص مثل رياض سلامة المثقل بالإتهامات داخليا وخارجيا.
والسؤال الثاني هو: كيف سيتصرف قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي والذي من المفترض أن يصدر قراره بعد انتهاء تحقيقاته. وبغض النظر عن التأويلات الكثيرة والممزوجة بالاشاعات وربما التمنيات، فإن قضية سلامة باتت تحت الأضواء الإعلامية الداخلية والدولية، ما يجعل هامش المناورة ضيقا الى حد بعيد في هذا الملف، خصوصا وأن الظروف الخارجية تبدو مساعدة لنبش الدفاتر المقفلة وفتح أسرار الصندوق الأسود الذي يجلس عليه سلامة.
والسؤال الثالث هو حول ردة فعل “المظلة” التي كانت تتولى حماية سلامة، وما إذا كان ذلك سيؤدي الى خطر ما على حياته لإبقاء فمه مغلقا.
والسؤال الرابع هو حول سبب تراجع الدعوات الى محاكمة سلامة بعد خروجه من وظيفته. وأيا يكن الجواب فإن القاضي الحجار أثبت بما لا يقبل الجدل أن “الغوغائية” والشعبوية لا تؤدي الى أي نتيجة سوى توخي الإثارة الإعلامية، وهي تنطفىء فور إنتهاء اللحظة السياسية. أما للحصول على نتيجة جدية فلذلك سلوك آخر أكثر جدية ومهنية.
أما السؤال الخامس والأخير وهو الأكثر أهمية فيتعلق بملف إنفجار المرفأ. ذلك أن التجرؤ قضائيا على اقتحام مغارة رياض سلامة سيمنح شحنة دفع قوية للقضاء للشروع في ملف إنفجار المرفأ بعد تجميده لسنوات عدة. خصوصا وأن ملف مرفأ بيروت يحظى بدعم دولي أكبر، وهو ما عبر عنه رأس الكنيسية الكاثوليكية حين استقبل وفدا يمثل أهالي ضحايا الإنفجار والكلام الذي أطلقه. ما يعني أن الخطوة التالية ستكون مع صدور القرار الظني عن القاضي طارق البيطار.
وفي المحصلة فإن هذه الملفات القضائية الحساسة والتي أدت الى نكبات تاريخية على اللبنانيين قد يجري توظيفها في السياسة بهدف الدفع في ترتيب التسويات المطروحة لرسم معالم المرحلة المقبلة التي ما برح ينتظرها لبنان بعد سنوات ثقيلة وقاسية ومرهقة فاقت طاقة اللبنانيين على تحملها.
ثمة قول مأثور كان يردده على الدوام الرئيس الشهيد رشيد كرامي “إشتدي يا أزمة بتنفرجي”. نأمل في أن يكون ذلك صحيحا.