انتقل “حزب الله” منذ فترة طويلة من معارضة النصوص والاتفاقات والقرارات، إلى تفسيرها على طريقته وبما يتناسب مع مشروعه، فأصبح يزايد مثلا بالتزامه باتفاق الطائف، فيما الانقلاب على هذا الاتفاق بدأ مع رفضه تسليم سلاحه بحجة ما يسمى مقاومة، وهذا الأسلوب في تحويل المعركة من مبدئية رفضية إلى تفسيرية للنصوص تجنِّبه المعارك الخاسرة التي تضعه في مواجهة مع القسم الأكبر من اللبنانيين ومع المجتمعين العربي والغربي، وتجعله يحرف النقاش عن موقفه الفعلي من الدستور وانقلابه على هذا الدستور.
لا يمكن لأي دولة في العالم ان تكون مستقرة ومزدهرة إذا كان هناك دويلة تسيطر على القرار الاستراتيجي لهذه الدولة، ولا يكفي ان يكون الدستور قد نص على أمر معيّن في ظروف معينة ليصبّ هذا الأمر في مصلحة الدولة، ومثال على ذلك تشريع الحشد الشعبي في العراق الذي لم يخدم الدولة العراقية، إنما ساهم بمزيد من الفوضى والفساد والتسيُّب وعدم الاستقرار، وذلك انطلاقا من مبدأ جوهري وهو ان لا قيامة لدولة ما لم تحتكر وحدها السلاح.
والوضع المأسوي للبنان بلا كهرباء ولا ماء ولا طرقات ولا إدارات ولا مؤسسات ولا عدالة (…) ليس وليد الصدفة، إنما سببه الأساسي ان دور الدولة هو دور شكلي وصوري، ويستحيل ان تستقيم شؤون المواطنين في أي بلد في العالم إذا لم يكن هناك هرمية سلطة وفصل سلطات واحتكار الدولة وحدها للسلاح.
والمقصود قوله انه حتى لو نجح “حزب الله” في غفلة من الزمن بتعديل الدستور اللبناني وتشريع سلاحه، سيبقى لبنان ساحة فوضى وفلتان وفساد وانهيار وفقر ومأساة، لأن الدساتير وجدت لمنع الفوضى وليس تشريعها، والهدف من اي دستور قيام دولة طبيعية أولويتها الإنسان والاستقرار والازدهار، وليس شبه دولة تحكمها ميليشيا، وكيف بالحري إذا كانت هذه الدولة تعددية، والميليشيا التي تسعى للهيمنة عليها مذهبية فئوية تتعارض مع شرائح مجتمعية واسعة مسيحية وإسلامية؟
وكل نقاش خارج سياق احتكار الدولة وحدها للسلاح هو نقاش خارج التاريخ والجغرافيا والزمن الحالي، لأن لا مرتكزات دولتية ولا دستورية له، وفي مطلق الأحوال الأمور تقاس بالتجربة والنتائج، والنتيجة واضحة للعيان: فشل وانهيار وفوضى بسبب وجود ميليشيا تمنع قيام دولة فعلية، وبالتالي التحجُّج ببيانات وزارية لا قيمة له نهائيا، ومن الخطأ الدخول أساسا في هذا النقاش: فإما سلاح واحد يعيد الاعتبار لمنطق الدولة وهيبتها، وإما المواجهة المستمرة حتى قيام الدولة الفعلية.
ولكن الإشكالية الفعلية ليست في الحجج التي يقدمها “حزب الله” للاحتفاظ بسلاحه، إنما الإشكالية المستمرة منذ اتفاق الطائف حتى القرار 1701 تكمن في الآتي: من هي الجهة القادرة على تطبيق الدستور والقرارات الدولية؟ وهنا بالذات تكمن الإشكالية الفعلية التي بحاجة إلى نقاش ومعالجة، وما لم تعالج سيبقى لبنان ساحة فوضى وفلتان وعدم استقرار.
وعلى رغم أهمية النصوص الدستورية والأممية، إلا ان ما هو أهم من هذه النصوص يكمن في تطبيقها، إذ لا تفيد بشيء ان تبقى حبرا على ورق كما هي الحال مع وثيقة الوفاق الوطني والقرارات الدولية، وبالتالي ما يجب ان يخضع للنقاش والحوار من الآن فصاعدا ليس النصوص الدستورية والأممية، إنما الجهة الضامنة تطبيق هذه النصوص، فهل هي دولية ام محلية؟
وقد أثبتت الوقائع ان الدولة في لبنان أعجز من تطبيق قانون السير وليس الدستور الذي ينص على سلاح واحد، وأعجز بالتأكيد من تطبيق القرارات الدولية، وبالتالي من يتكئ على الدولة اللبنانية يعني انه يريد إبقاء لبنان بؤرة تفجير إقليمية، وساحة تفجير لكل مساعي السلام والاستقرار.
وما هو مطروح اليوم على طاولة المفاوضات الدولية ليس الدستور اللبناني ولا القرار 1559، ما هو مطروح هو القرار 1701، وهذا القرار ليس بحاجة لتعديل، إنما بحاجة لتطبيق، ولو طبِّق منذ إقراره لما كانت اندلعت الحرب الأخيرة بين إسرائيل و”حزب الله” والتي أعلنها الأخير.
ومن يراقب المواقف السياسية يخرج بانطباع بان القرار 1701 يشكل نقطة تلاق وإجماع بين اللبنانيين، فيما الحقيقة هي خلاف ذلك تماما، لأن الفريق الممانع انقلب على هذا القرار على غرار انقلابه على الدستور، ولكن بدلا من ان يعلن رفضه له ويضع نفسه في مواجهة مع المجتمع الدولي، حوّر النقاش باتجاه آخر بان مسؤولية عدم تطبيقه تتحملها إسرائيل.
وبمعزل عن مسؤولية إسرائيل المنفصلة تماما عن مسؤولية لبنان، إلا ان من يتلطى بتل أبيب لا يريد علنا تطبيق القرار 1701 الذي يحمِّل بوضوح حكومة لبنان مسؤولية تطبيقه في الجوانب التالية:
الجانب الأول، بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية وفق أحكام القرار 1559 (2004) والقرار 1680 (2006)، والأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، وان تمارس كامل سيادتها، حتى لا تكون هناك أي أسلحة دون موافقة حكومة لبنان ولا سلطة غير سلطة حكومة لبنان.
الجانب الثاني، إحياء العمل في اتفاق الهدنة بين إسرائيل ولبنان المؤرخ في 23 آذار 1949.
الجانب الثالث، إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان.
الجانب الرابع، منع مبيعات أو إمدادات الأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى لبنان عدا ما تأذن به حكومته.
فهل إسرائيل تمنع الحكومة اللبنانية من تطبيق هذه الجوانب الأربعة أم “حزب الله”؟ بالتأكيد الحزب، لأن هذه الجوانب وغيرها من مسؤولية الحكومة اللبنانية، ولكن “حزب الله” الذي لا يريد ان يقول علنا بانه لن يطبِّق القرار 1701 يتذرّع بمسؤولية تل أبيب.
وأهمية القرار 1701 انه يشكل خريطة طريق لاحتكار الدولة واحدها للسلاح واستعادتها للقرار الاستراتيجي، بدءا من إحياء اتفاق الهدنة وخروج “حزب الله” العسكري من جنوبي الليطاني، مرورا بتطبيق القرار 1680 لجهة ضبط الحدود بين لبنان وسوريا ومنع بيع او تمرير السلاح إلى لبنان لغير الحكومة، وهذا يعني إسقاط الجسر التسليحي بين طهران والضاحية، وصولا إلى تطبيق القرار 1559 لناحية بسط سيادة الدولة على الأرض اللبنانية كلها، ما يعني نزع سلاح “حزب الله”.
فلا حاجة لأي قرار جديد لضمان سلامة الحدود واللبنانيين، إنما الحاجة لتطبيق القرار الموجود، وأكبر خطيئة يعيد المجتمع الدولي ارتكابها بحقّ اللبنانيين للمرة الرابعة تكون بترك مهمة التنفيذ على الحكومة اللبنانية المخطوفة من قبل “حزب الله”، واي حكومة لن تكون قادرة على تطبيق اي شيء في ظل الوجود العسكري للحزب.
الخطيئة الأولى التي ارتكبها المجتمع الدولي بحقّ لبنان كانت بتركه مهمة تنفيذ اتفاق الطائف على عاتق اللبنانيين بمساعدة نظام الأسد، فتم الانقلاب على هذا الاتفاق وتسورن وتبعثن، والخطيئة الثانية كانت بعدم تنفيذ القرار 1559 بشقيه السوري والإيراني من خلال إخراج الجيش السوري ونزع سلاح “حزب الله”، والخطيئة الثالثة كانت بإسناد مسؤولية تنفيذ القرار 1701 للحكومة، فانقلب الحزب على القرار واستعاد الوضع الذي كان عليه قبل حرب تموز، ومن غير المسموح ان تُرتكب خطيئة رابعة بحق لبنان واللبنانيين.
وبالعودة إلى السؤال المعنون في المقال: من الجهة التي ستنفِّذ القرار 1701؟ فالإجابة يجب ان تكون حتما المجتمع الدولي على قاعدة المثل الشهير “من يجرِّب المجرَّب، فعقله مخرّب”، واي تلكؤ دولي يعني ان الحرب ستتجدّد بعد سنوات، ويعني ان لبنان سيبقى منصة لإفشال مساعي السلام الدولية كلها، ويجب ان يكون هناك قناعة دولية راسخة وثابتة ان لبنان عاجز، وعاجز، وعاجز عن تنفيذ القرار 1701 ولو طوّع 20 ألف عسكري وأكثر، لأن المسألة تتعلّق بالقدرة على اتخاذ القرار، وهذه القدرة غير موجودة، وبالتالي مسؤولية التنفيذ ملقاة على المجتمع الدولي حصرا.
ولا يجب على المجتمع الدولي ان يصدِّق ما يصدر عن الحكومة والممانعة لجهة الالتزام بالقرار 1701، وليس مطلوبا الاكتفاء بالدعوة إلى التنفيذ الفعلي لهذا القرار، إنما المطلوب فقط لا غير ان يتكفّل المجتمع الدولي بتطبيقه بنفسه.