في الذكرى الثالثة لانسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان والذي وصف يومها بالإنسحاب المذل، تبدو الصورة اليوم مختلفة كلياً عما كانت عليه صيف العام 2021. فالخروج العسكري من أفغانستان بعد إنقضاء زهاء عشرون عاما أوحى يومها أن واشنطن باشرت تطبيق سياسة الإنسحاب الهادىء من الشرق الأوسط والإستدارة ناحية التحديات الصينية.
لكن الشرق الأوسط المشهور بتعقيداته ومفاجآته أعاد واشنطن الى قلب المنطقة ليجدد دروسه التاريخية للإدارة الأميركية بأنها حتى ولو قررت إدارة ظهرها لأكثر المناطق تعقيدا في العالم فهي ستجد نفسها ملزمة بالعودة إليها لحماية مصالحها الحيوية حتى ولو كانت في مناطق بعيدة جغرافيا عن الشرق الأوسط.
ولكي نكون واقعيين فإن إدارة الرئيس جو بايدن كانت تعمل على إعادة ترتيب المسرح في المنطقة بما يتلاءم ومصالحها من خلال تسويات كبرى تم التعريف عنها بإعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة، وهو ما تجلى باتفاقات إبراهيم وإنجاز طريق الهند ـ الإمارات ـ السعودية فإسرائيل. لكن قائد حركة “حماس” في غزة يحيي السنوار قرر شن معركة “طوفان الأقصى” والتي تحولت أطول حرب خاضتها إسرائيل، والتي تتجه الى ترسيخ وقائع ميدانية جديدة تؤسس لولادة معادلة إقليمية جديدة.
فللمرة الأولى منذ زمن بعيد تحتشد أقوى حاملات الطائرات والغواصات والسفن الحربية الأميركية في المياه المحيطة بالشرق الأوسط، وفي وضعيتي الدفاع والهجوم، وتشارك مباشرة في العمليات الحربية إن ضد الحوثيين أو في حملة إجهاض الهجوم الصاروخي الإيراني ضد إسرائيل. وهو ما يعني إنخراط عسكري أميركي كامل وقابل لأن يتطور أكثر لو حصلت أخطاء حسابية. وفي المقابل سجل انكفاء صيني وروسي على حد سواء على رغم من الإتفاقات التي كانت تجمع طهران بكل من بكين وموسكو واصطفافها ضمن هذا المحور الدولي. واستطرادا فإن من المنطقي الإستنتاج أن التبدلات الكبيرة في التوازنات الميدانية وسيجري ترجمتها بمعادلة إقليمية جديدة وفق التصور الذي تدفع واشنطن في اتجاهه لناحية إعادة تشكيل المنطقة.
ومن هذه الزاوية لا بد من قراءة السلوك الجديد للقوات الأميركية المتمركزة في العراق. فخلال الأيام الماضية حصلت عملية مشتركة بين الجيشين العراقي والأميركي في منطقة الأنبار العراقية ضد تنظيم “داعش”. واللافت هنا أن القوات الأميركية وخلال السنوات الماضية كانت تكتفي بتولي مهمات الإستشارة والتدريب وليس خوض العمليات القتالية إنسجاما مع مبدأ الإستعداد للإنسحاب في موعد ليس ببعيد. لكن العملية العسكرية المشتركة تعطي إنطباعا مختلفا يناقض مطالب الفصائل العراقية المتحالفة مع إيران بإنهاء مهمات القوات الأجنبية الموجودة على الأراضي العراقية والمقصود هنا طبعا القوات الأميركية.
ولا تقتصر الإشارات المعبرة على العراق وحده. فعلى رغم من “رمزية” القوات الأميركية في المنطقة الشمالية الشرقية لسوريا، وهي المنطقة الحساسة والمهمة جدا، إلا أنه سجل في الآونة الأخيرة استقدام تعزيزات متواصلة تتضمن جنود متخصصين ومعدات عسكرية متطورة الى النقاط حيث يتمركز الجنود الأميركيون والذين يتعاونون ميدانيا مع الأكراد.
وفي موازاة ذلك سجلت تعزيزات عسكرية روسية ولكن في جنوب سوريا وتحديدا في منطقة الجولان حيث تم إنشاء مراكز مراقبة جديدة بهدف الإشراف على إبقاء الجبهة هادئة والحؤول دون حصول تسلل أو هجمات عبر الخط الفاصل مع إسرائيل. ووفق المرصد السوري المعارض فلقد بلغ عدد هذه النقاط 15. والمعروف أن إسرائيل اشتكت طويلا من تحركات مجموعات تابعة لحزب الله في هذه المنطقة. وكان قد سبق الخطوة الروسية إيفاد الرئيس الروسي مبعوثا خاصا الى طهران يحمل طلبا بإبعاد الساحة السورية عن أي مواجهات قابلة للحصول في إطار الثأر الإيراني من إغتيال إسماعيل هنية في طهران. وبالتالي يمكن قراءة الخطوة العسكرية الروسية في إطار ملاقاة المشروع العريض الذي تدفع واشنطن في اتجاهه وليس أبدا في إطار الشغب عليه أو المواجهة معها.
ولكن النقطة الأهم تبقى في الإشارات الإيرانية المرنة بخلاف الخطاب الرسمي والإعلامي الحاد، ولهذا معناه العميق بلا شك. فانتخاب رئيس “إصلاحي” بتشجيع من مرشد الثورة له معناه الواضح. وثورة الغضب التي انتابت نائبه محمد جواد ظريف إثر التشكيلة الحكومية ما دفعه لتقديم استقالته ما لبثت أن تبدلت وأدت الى عودته عن استقالته. وظريف الذي وقع الإتفاق النووي عام 2015 معروف عنه بدعوته الى فتح أبواب الحوار والتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية. وتردد أن عودته عن خطوته الغاضبة لها علاقة بحصوله على توضيحات بأن إيلاء المتشددين لبعض الحقائب الأساسية مثل وزارة الداخلية له علاقة باستيعاب غضب المحافظين بعد كل ما جرى، لكن الخطوط العريضة لسياسة الإنفتاح الخارجي لم تتبدل، لا بل فإن التشكيلة الحكومية هي للمساعدة في التخفيف من العوائق أمام الإنفتاح المطلوب. وهذا ما قد يفسر إعلان خامنئي في شكل واضح وللمرة الأولى ربما تأييده للتحاور “مع العدو”.
وقد ترافق ذلك مع التمهل الإيراني في توجيه رد إنتقامي ضد إسرائيل، في وقت جاء رد حزب الله على إسرائيل مدروسا بعناية فائقة. وبالتالي كانت إيران قادرة وسط فورة الغضب التي أظهرها الحرس الثوري إثر اغتيال هنية على توجيه ضربة عسكرية مشتركة بينها وبين جميع حلفائها من حزب الله إلى الحوثيين الى الفصائل العراقية، لكنها أحجمت عن ذلك. فتجزئة الرد والأهم إخضاعه لدرس دقيق هو مؤشر معبر في حد ذاته حتى ولو حصل لاحقا على شكل عملية أمنية أو استخباراتية.
القائد الأعلى السابق لحلف “الناتو” جيمس ستافريديس أعطى تقييمه للوضع القائم والذي لا بد أن يكون يرتكز على تقاربر دقيقة نتيجة مسؤوليته السابقة. فهو اعتبر أن لا إسرائيل ولا حتى إيران ترغبان في حرب طويلة. وأورد ستافريديس في مقابلة له تشبيه معبر جدا حين قال: “سنشاهد المزيد من الملاكمة “الوهمية” بدلا من توجيه اللكمات القوية والحقيقية.”
وانطلاقا من هنا يمكن الاستنتاج أن التعقل والبرودة في الميدان قد يكون لهما علاقة بتبدل الخريطة الميدانية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب قنوات التفاوض المفتوحة بقوة منذ السابع من أوكتوبر الماضي والتي تحاكي كيفية إعادة تشكيل خريطة النفوذ في المنطقة.
صحيح أن طهران تعمل على إعادة إلتقاط الأوراق تحضيرا لمرحلة ما بعد الحرب وهنا تأتي أهمية العلاقة مع حركة “حماس” و”الإخوان المسلمين”، إلا أن الديبلوماسية الإيرانية المشهورة بحذرها الدائم واتعاظها من تجارب الماضي قد تكون تفضل المزج بين جمع أوراق القوة وترتيب التفاهمات الكبرى.
وإذا كانت خيارات إيران قد ضاقت بسبب خسارة ورقة غزة الإستراتيجية والفائقة الأهمية ما يجعلها ملزمة بإعادة بناء هيكلية جديدة لحلفائها من خلال الرهان غير المضمون مع الإخوان المسلمين، فهي في الوقت نفسه باتت تتلمس عودة البرودة مجددا الى علاقتها مع دول الخليج وفي طليعتها السعودية. فالعلاقة مع “الإخوان المسلمين” تثير حساسية فائقة خصوصا للإمارات والسعودية. وربما لأجل ذلك عادت وتصاعدت مؤشرات التوتر بين طهران والرياض بدءا من المجال الإعلامي. ففيما باتت وسائل الإعلام الحليفة لحزب الله تشهد هجمات في اتجاه السعودية والإمارات بما يخالف الأجواء التي سادت إثر مصالحة بكين والتي تضمنت شرطا بوقف الحملات الإعلامية، سجل في المقابل خطوة لا بد أن تكون قد أثارت طهران نظرا لمعانيها ورمزيتها. فمع الإقتراب من الإنتهاء من تصوير فيلم “محارب الصحراء” والذي تنتجه شبكة “أم بي سي” السعودية تتجه العلاقات بين إيران والسعودية الى مزيد من التوتر المكبوت. ذلك أن الفيلم يتحدث عن أول معركة انتصر فيها العرب على الأمبراطورية الفارسية. يومها اتحدت القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية وخاضت معركتها في وجه الفرس. ولا حاجة لشرح حساسية هذه الواقعة التاريخية وإدراجها ضمن فيلم رصدت له موازنة ضخمة في هذا الوقت بالذات.
لكن إيران في حاجة للدور السعودي في لبنان خصوصا لناحية تخصيص الأموال لإعادة إعمار القرى المدمرة في الجنوب. فالمشكلة هنا أن إحجام السعودية سيحول دون إقدام دول خليجية أخرى والتي تحاذر إغضاب المملكة.
لكن قبل ذلك فإن لبنان ينتظر قرار وقف إطلاق النار لفتح كل هذه الملفات الصعبة والأثمان المطلوبة. فبخلاف المقولة الرائجة فإن الجبهة اللبنانية والتي فتحت لإسناد غزة لن تعني بالضرورة وقفا لإطلاق النار في حال الذهاب الى وقف الحرب هناك. ذلك أن مصير الجبهة اللبنانية مرتبط فعليا بالإتفاقات السياسية المطلوبة من لبنان والتي سترتكز على تنفيذ القرار 1701 والخطة الثلاثية الموضوعة له والتي يحملها الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين.
وإذا كانت الخلافات الإسرائيلية الداخلية تشتد حول كيفية التعاطي مع غزة، إلا أنها لا تبدو كذلك حيال لبنان. أضف الى ذلك أن نتنياهو يدرك جيدا مصير رؤساء الحكومة الإسرائيلية السابقين والذين خاضوا حروبا لم تؤد الى انتصارات واضحة. فمصير هؤلاء كان ليس فقط الخروج من الحكومة بل أيضا من الحياة السياسية بكاملها. هذا ما حصل مع غولدا مائير عام 1973 ومع مناحيم بيغين والذي فشل في تحقيق انتصار سياسي عام 1982 ومع شيمون بيريز عام 1996 في عملية “عناقيد الغضب” ومع إيهود أولمرت عام 2006 والذي دخل السجن لاحقا. ووفق هذه التجارب سيستميت نتنياهو للخروج بأوراق رابحة خصوصا في لبنان أو المشكلة التي ما تزال تحظى بأكبر مقدار من الإجماع الإسرائيلي. والواضح أن نقطة التقاطع الأميركي ـ الإسرائيلي هي بإنهاء الوظيفة الإقليمية لحزب الله إنطلاقا من ترتيب الحدود اللبنانية.
وفي بداية الحرب وإثر فتح الملف اللبناني دار نقاش داخل قاعات الحزب الديموقراطي بين المجموعات المولجة بالملف اللبناني في واشنطن. يومها طرح ملف الحدود اللبنانية خصوصا بعدما ظهرت حركة عسكرية فلسطينية وأخرى لـ”الجماعة الإسلامية” عند الحدود. وكان واضحا بالنسبة الى هؤلاء الرسائل التي يوجهها حزب الله.
وكان هنالك رأي بأن من الأفضل لإسرائيل التفاهم مع حزب الله عبر واشنطن على قواعد ثابتة أظهر الحزب دائما أنه يحترم تنفيذها كما هو حاصل مع الحدود البحرية والتي بقيت هادئة وعلى قاعدة أن وجود عدو لإسرائيل ولو قوي ولكن عاقل أفضل بألف مرة من وجود مجموعات ضعيفة ولكنها غير منظمة وتصرفاتها غير مضبوطة وقابلة للإختراق الخارجي كل لحظة. لكن النقاش إستقر على ضرورة خلق واقع جديد مختلف كليا ويرسخ معادلة إقليمية جديدة بوظائف مختلفة. فإذا كانت نكبة العام 1948 قد فرزت خريطة جديدة في الشرق الأوسط ومعادلات مختلفة عن الحقبة السابقة، فإن مرحلة ما بعد غزة يجب أن تؤدي الى نشوء معادلة إقليمية جديدة. وهو ما يعني وجوب تفكيك خط التماس الإسرائيلي ـ الإيراني والذهاب الى عناوين أخرى ستكون إيران أحد أبرز اللاعبين فيها. وانطلاقا من هنا ظهر التقاطع الإسرائيلي ـ الأميركي حول ترتيب المنطقة الحدودية للبنان.
ولكن كان هنالك تمسكا بأن لا يعني ذلك نسف التوازنات القائمة على مستوى السلطة والدستور اللبناني. ولا شك في أن الٱستحقاق الرئاسي والمجمد بقرار وعن سابق تصور وتصميم يخضع لهذا المنطق.
وخلال الأيام المقبلة وتحديدا خلال أسبوعين سيجتمع سفراء الخماسية بعد عطلة طويلة في منزل السفير السعودي. وستكون السفيرة الأميركية قد عادت من إجازتها القصيرة وكذلك السفيرين السعودي والقطري. وتجري إحاطة هذه العودة بضجة إعلامية مقصودة رغم عدم وجود جديد دسم في ملف الرئاسة. والهدف من كل هذه الضجة القول أن اللجنة لم تمت كما أشيع سابقا، وأيضا الاستعداد لمواكبة أي مستجدات قد تحصل على مستوى الترتيبات الجنوبية طالما أن الوقت ينفذ والإنتخابات الأميركية التي ينتظر نتائجها الجميع لم تعد بعيدة.
وحول ما حكي عن إمكانية ضم السفير الإيراني الى الخماسية قيل أن أحد السفراء (تردد أنه القطري) إستمزج رأي السفير الإيراني الذي أبدى رفضه للإنخراط في اللجنة. وفي الوقت نفسه نفى سفير آخر أن يكون هذا الطلب يحظى بتفاهم اللجنة الكامل.
وفي المحصلة يبدو أن مرحلة لبنان لم تعد بعيدة، ولو أن ذلك مرتبط بتطور الأوضاع على الساحة الفلسطينية. لكن ثمة اقتناع بأن الإنتخابات الأميركية تبقى محطة أساسية وأن لا محال أمام إنجاز التفاهمات المطلوبة جنوبا ومن خلالها إعادة إطلاق عجلات السلطة المشلولة. ولكن الأهم أن “تعقل” الميدان له أسبابه المشروعة والمرتبطة بالحركة الناشطة في كواليس التفاوض حول مستقبل المنطقة.