في انتظار ما يمكن ان تحمله الأيام القليلة المقبلة كحصيلة للمشاورات المكوكية ما بين جولتي المفاوضات التي استؤنفت الخميس الماضي في الدوحة وتلك المنتظرة في القاهرة، ما زالت الأنظار مشدودة الى ما يمكن ان يتحقق من المبادرة الثلاثية الاميركية – المصرية – القطرية ولو بخطوات متواضعة، تتعلق بالمرحلة الاولى التي قالت بوقف نار مبدئي وعملية تبادل للاسرى والمعتقلين توصلا الى وقف مستدام للنار يقود إلى “اليوم التالي” للحرب. وعليه ما هو المتوقع والمنتظر؟
تجهد المراجع الديبلوماسية والسياسية المحلية لفهم ما يجري في الغرف المغلقة ما بين الدوحة والقاهرة وواشنطن وتل ابيب، لاستكشاف ما يجري في العواصم المنخرطة في مبادرة الرئيس الاميركي جو بايدن من أجل الحل في قطاع غزة. لتسهيل فهم انعكاساتها على بقية جبهات “الإلهاء والإسناد” المرتبطة بها والتي تشترك في معالجتها قوى اقليمية ودولية أخرى تجهد لخفض التصعيد ومن بينها باريس، لندن، انقرة، وطهران وبكين في ما بقيت عواصم اخرى تراقب ما يجري وسط صمت مريب يسود بعضها ولا سيما منها تلك العربية والخليجية التي كانت تستعد لتطبيع او تلك التي عقدت اتفاقيات سلام وتعاون مع اسرائيل.
وباعتراف مسؤولين لبنانيين فان بيروت التي استقطبت مساحة واسعة من الحراك الديبلوماسي الدولي باتت على اقتناع غير مضمون بكامله بأن موجة التصعيد ابتعدت عنها في المرحلة القريبة على الأقل. وهي استندت في اقتناعها المحدود إلى ان الحركة الناشطة التي اعقبت التطورات الدراماتيكية الاخيرة ولا سيما منها مفاوضات الدوحة، جمدت اكثر من خطة للرد على عمليتي اغتيال كل من اسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في الضاحية الجنوبية على الأقل في المدى المنظور. كما فهمت جيدا الموقف المستجد في “محور الممانعة” بعدما تم الفصل بين ما هو متوقع من رد فعل ومساعي وقف النار في غزة، ونمي إلى بعض المسؤولين انه يمكن غض النظر عنه مؤقتا وقد ينتفي في حال واحدة تختصرها الوساطة الدولية ان نجحت في لجم العدوان على غزة ولبنان وتثبيت وقف النار فيها وامداد القطاع بما يحتاجه الشعب الفلسطيني من المساعدات الغذائية والطبية والانسانية.
على هذه القواعد، رست القراءة الأخيرة للتطورات، فزيارة الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين، ومن بعده وزير الخارجية الفرنسية ستيفان سيجورنيه فوزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي الى بيروت الاسبوع الماضي اعطت دفعا لمساعي التهدئة على جبهة لبنان في المدى القريب. فقد قطع الموفدون وعودا بالتهدئة يمكن ان يأتي بها مسلسل الضغوط على الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني وهو ما سعت اليه الادارة الاميركية بكل قوة وهي التي أوفدت امس وزير الخارجية أنتوني بلينكن الى إسرائيل بعد تردد سبق انعقاد لقاءات الدوحة الخميس الماضي قبل ان يقصد القاهرة لاحقا لاستكمال محادثاته التي يرغب في أن تكون “حاسمة” ومحصورة بالخطوات التنفيذية لما يمكن ان يجري التفاهم عليه في المرحلة التي تلي الخطوات الأولى لمبادرة بايدن ان تم تحقيقها خصوصا على مستوى ضمان الإنسحاب الاسرائيلي من القطاع قبل نهاية عملية تبادل الاسرى التي كانت وستبقى الورقة الاخيرة في يد الفلسطينيين التي من بعدها قد يخسرون أوراق القوة كافة، ولا يمكن التفريط بأقواها فاعلية قبل ضمان اي خطوة اسرائيلية تبعد شبح العدوان والمجازر.
وعلى رغم من موجة التفاؤل التي أطلت من زوايا مختلفة نتيجة تأكيدات الادارة الاميركية بضرورة التوصل الى حل قبل نهاية ولاية بايدن، فإنها ترصد بدقة ما يمكن ان تحققه الضغوط الاميركية في إسرائيل فالخلافات بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت القت بثقلها على الموقف الاسرائيلي. كما ان ارتفاع موجات الاعتراض على تصلب نتنياهو يمكن ان تفعل فعلها في المرحلة المقبلة. فالاسرى المتبقين في القطاع باتوا في خطر شديد ويمكن لأي ضربة اسرائيلية ان تقضي على قسم منهم ان صحت التوقعات انهم يشكلون دروعا بشرية لبعض قادة “حماس”. عدا عن إصرار الجانب الأميركي على الإفراج عن عدد من حاملي الجنسية الاميركية قبل دخول واشنطن مدار الانتخابات الرئاسية القاتل في ظل السباق المحموم القائم بين المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس والرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، وان الإفراج عنهم سيشكل دعما قويا لا يستهان بنتائجه الانتخابية.
والى هذه المؤشرات فقد سجلت الديبلوماسية اللبنانية عتبا كبيرا على معظم الدول العربية التي ما زالت في موقع المتجاهل لما يجري في لبنان وغزة، فضلا عن الاستنكاف الكبير عن اتخاذ أي مبادرة وممارسة أي من الضغوط الاقتصادية والديبلوماسية الموجعة التي يمكن ان تغير في بعض المعادلات. فباستثناء القاهرة التي استهلت منذ تشكيل حكومتها الجديدة حملة ديبلوماسية في اتجاه لبنان اراحت اللبنانيين واعطتهم املا بوجود من يسعى لتجنيب بلدهم أي ضربة لا يحتملها البلد الضعيف الواقف على شفير الانهيار، وذلك من قلب الحلف الثلاثي الجديد الذي يجمعها مع الدوحة وواشنطن. وان وضعت قطر في موقع “الواهب الدائم” بالنسبة الى مساعداتها الكبيرة للجيش اللبناني والمؤسسات الاخرى، والعراق في المجال النفطي ومن بعده الجزائر، فقد اكتفت الدول الاخرى بالتحذير من الوضع في لبنان والإصرار على منع مواطنيها من زيارته ومغادرته ان وجدوا فيه لأي سبب من الأسباب.
على هذه الخلفيات، ارتفعت التحذيرات مما هو آت من تطورات توحي بأن المنطقة قد تتحول في أي لحظة “جهنماً مفتوحة”، وما زال اللبنانيون يناقشون في جنس الملائكة وقد امعنوا في الاستنكاف عن انتخاب رئيس للجمهورية يعيد تنظيم العلاقات بين السلطات الدستورية المشلولة والمعطلة. وقد زاد في الطين بلة المناكفات التي أدت إلى انقطاع شامل للتيار الكهربائي وتحميل اللبنانيين تكاليف لم يعد بقدرة اي كان تحملها. وفي موازاة عجزهم عن القيام باولى واهم مسؤولياتهم الجسيمة يتربعون في مواقعهم ويكتفون بالطلب من اللبنانيين مزيدا من الصبر والجَلَد وتحمل تبعات فشلهم في مواجهة اي معضلة تحت شعار تجاوز الظروف الصعبة في المنطقة بعدما باتت تهدد كيانهم وأمنهم وحاضرهم ومستقبلهم بشتى السيناريوهات المظلمة.
وانطلاقا مما تقدم، يعترف المسؤولون الكبار بالعجز عن قراءة المرحلة المقبلة وفقدان اي معلومة تتعلق بما يجري في الغرف المغلقة في هذه الايام العصيبة الحاسمة بين لقائي الدوحة والقاهرة، بعدما اكتفى الموفدون بتقديم النصح بالتروي في الرد على الإغتيالات الاخيرة وتجنب ما يثير غريزة نتنياهو للدم، حسبما يقول حتى الموفدون الاميركيون. وإن لاحت فكرة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بزيارة القطاع في خطوة تؤكد “وقوفه الى جانب اهله المعرضين للابادة”، لم يظهر بعد انها سوى فكرة طرحها الرئيس التركي رجب الطيب اردوغان وكشف عنها سريعا امام البرلمان التركي، فان الصمت الدولي تجاهها حتى اللحظة، والقرار الاسرائيلي بمنعه من القيام بها يؤشر الى انها خطوة غير مكتملة وقد لا ترى النور. وخصوصا ان المناقشات حول شكل وماهية الادارة التي ستتولى شؤون القطاع بعد الحرب لم تنته الى اي صيغة تلحظ دورا للسلطة فيها. فيما بقية الخطط يعطلها اصرار اسرائيل على البقاء في محوري نتساريم وسط القطاع وفيلادلفيا في جنوبه على الحدود المصرية وهو ما قد يؤدي ان لم يصرف النظر عن هذا القرار الى نسف عملية السلام المنشودة بكاملها.