يدرس الإيرانيون جدياً سبل استثمار المناخ السياسي الداخلي، الناتج عن فوز مرشحهم الانفتاحي مسعود بزشكيان بمنصب الرئاسة، لكي يدخلوا في تفاهمات مع الولايات المتحدة، قبل انتهاء ولاية الرئيس جو بايدن. فالمرحلة الآتية ستكون أكثر صعوبة، إذا عاد إلى السلطة دونالد ترامب. ومناخات «التسهيل» الإيرانية قد تترجمها توافقات تشمل الملف النووي والنقاط الملتهبة في اليمن وغزة ولبنان ومناطق أخرى في الشرق الأوسط.
ملامح الرغبة الإيرانية في تحسين العلاقات مع واشنطن أظهَرتها الاتصالات الجارية على مستوى ديبلوماسي وأمني بين الطرفين في قطر. فقد عبّر رئيس الوفد الإيراني المفاوض علي باقري كني عن استعداد طهران للعودة إلى اتفاق فيينا، الموقّع في العام 2015، ومن دون إحداث تعديلات عليه. وهذا التطوّر في الموقف الإيراني يكشف رغبة في إمكان إبرام التسوية المنشودة في المدة الباقية من عهد بايدن، بل في مدى أسابيع قليلة.
ولكن، وتجنّباً للمبالغة في الاستنتاج، الأرجح أن قيادة المرشد علي خامنئي، ستتريّث في حسم التفاهمات، وستمارس أقصى درجات الحنكة، وتعتمد سياسة الخطوة خطوة. أي إن النظام الإيراني، ذا الخبرة العريقة في المناورة، يريد فقط في الوقت الحاضر أن يفتح باب المفاوضات حول الملفات الشائكة. وفي الأثناء، هو سيراقب مؤشرات المعركة الرئاسية في الولايات المتحدة. فإذا مالت الدفة إلى ترامب في شكل مؤكّد، تقوم إيران بتسريع الاتفاق وتتساهل في الموافقة على بنوده. أما إذا ظهر تحسّن في حظوظ المرشح الديموقراطي، فيمكن التريث والرهان على تأخير.
وسرت في الأوساط الديبلوماسية أجواء تفاؤل بتسويات قريبة في الملفات الإقليمية الساخنة، وفي مقدمها حربا غزة وجنوب لبنان. وهذا التفاؤل مبني على معطيات واقعية، لأن طهران تراجع حساباتها مجدداً. لكن المبالغة في الرهان على اتفاقات جديدة ليست في محلها، لأن الإيرانيين لا يتسرعون عادةً في اتخاذ قراراتهم.
في أي حال، هناك عامل آخر دخل على خط التوافقات حول النووي وملفّي غزة ولبنان وسواهما، هو الموقف الإسرائيلي الذي بلغ مَداه بزيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن وخطابه «الاحتفالي» في الكونغرس. فالرجل جهّز رحلته وخطابه بإتقان، وأعدّ فصولاً دعائية كاملة قام يعرضها على ممثلي الأمة الأميركيين، فنال من غالبيتهم تهليلاً استثنائياً سيمنح نتنياهو وإسرائيل رصيداً في السياسة الخارجية والدفاعية الأميركية لا يمكن تجاوزه.
بل إن نتنياهو، بعد تحصيله هذا المقدار من التأييد في الكونغرس، سيلتقي المسؤولين وأركان الحزبين الجمهوري والديموقراطي مُحصّناً برصيد معنوي لم يحصل عليه أي زعيم أجنبي خاطبَ الكونغرس. وسيكون المرشحان لرئاسة الولايات المتحدة مضطرين إلى الاستماع جدياً إلى المطالب المعنوية والمادية التي يطرحها الضيف الإسرائيلي وإطلاق الوعد بتلبيتها.
المشكلة التي ستواجه إدارة بايدن تكمن في أنها اليوم في أقصى درجات ضعفها، خصوصاً أمام إسرائيل. ولذلك، قد يضغط الإيرانيون لتسريع الاتفاقات معها، لكن نتنياهو سيتمكن من إحباط هذه المحاولة. ففي الأساس، عندما تم إبرام الاتفاق النووي، اعترض عليه الإسرائيليون بقوة وطالبوا بإلغائه، محذّرين من أن إيران ستستغله لرفع الحصار المالي المضروب عليها، وتحويل الأموال المُفرج عنها إلى استثمارات جديدة للتسلح وتدعيم النفوذ الإقليمي، فيما تستكمل بناء قدراتها النووية في المجال العسكري. وقد عمد ترامب لاحقاً إلى إلغاء الاتفاق، بناء على هذه المبررات.
إذاً، سيجد نتنياهو تفهّماً وتعاطفاً لدى ترامب في هذا الملف، فيما لن يجرؤ بايدن على معاكسة خيارات إسرائيل في اللحظة الانتخابية الحرجة. وهذا يعني أن عودة الإيرانيين والأميركيين إلى اتفاق فيينا ليست واردة واقعياً في المدى المنظور. وأما الملفات الأخرى التي يمكن أن يطمح الإيرانيون إلى إبرام تفاهمات حولها، كغزة ولبنان، فمن المستحيل أن تتحقق إذا كان نتنياهو يرفضها، لأنه هو المعني بتوقيعها. والدليل هو أن «حماس» قدّمت تسهيلات واسعة لتسهيل اتفاق لوقف النار وتبادل الرهائن في غزة منذ أسابيع، لكن الاتفاق متعذّر بسبب رفض نتنياهو الذي ينتظر التحولات إقليمياً ودولياً، وهو يعرف أنه سيبرم الاتفاقات مع الأقوياء على رقعة الشرق الأوسط في النهاية، وأن عامل الوقت يصب في مصلحة إسرائيل والخيارات المتطرفة التي يعمل لها نتنياهو ورفاقه في حكومة اليمين واليمين المتطرف.