رغم أن الخلفيات الحقيقية التي دفعت بشاب لديه تاريخ حافل من الشغب لمحاولة إغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن سابق تصور وتصميم ما تزال مجهولة وهي قد تبقى مجهولة بعدما أغلق فمه الى الأبد، إلا أنه ما من أدنى شك بأن ما حصل شكل صدمة كبيرة ومنعطفا حادا في مسار إحدى أغرب الإنتخابات الرئاسية الاميركية، وسترخي بتداعياتها على الحرب التي تخوضها إسرائيل.
وعدا عن العطف العارم الذي سيناله ترامب فإن ردة فعله فور إصابته بالرصاص والذي غلب عليه التماسك والتحدي، ورفعه لقبضته فيما الدماء تسيل على وجهه والتي منحته صورة الزعيم القوي، إلا أنه لا بد من ملاحظة المواقف المسؤولة التي صدرت على السواء من الخصمين اللدودين بايدن وترامب والتي خلت من أي تجييش أو إتهامات بل دعت الى الوحدة، وهو ما انسحب تدريجيا على كبار مسؤولي الحزبين بعد المواقف الفورية والتي غلب عليها التشنج. طبعا سيشكل ذلك نقطة إضافية لصالح ترامب والذي بدا أكثر نضجا عما كان عليه، ذلك أن معظم معارضيه يحتفظون بمشهد هجوم أنصاره على الكابيتول هيل واعتبارهم أن ترامب العنيف يهدد مؤسسات الدولة والإستقرار العام.
في الواقع بدت المدرسة السياسية الأميركية في وضع تراجعي خلال ما يقارب العقد الأخير وهو ما أدى في نهاية المطاف الى حصر الخيارات الرئاسية بين شخصين لا يرغب بأي منهما أكثر من نصف الناخبين. وهي الصورة التي جسدها ببراعة توماس فريدمان حين كتب قائلا: في حال فوز بايدن فسيكون علينا أن نصلي كل يوم كي يتمكن من النهوض من فراشه للقيام بمسؤولياته، وأما في حال فوز ترامب فسنحتاج لأن نصلي كل صباح لأن يبقى في سريره طوال اليوم كي لا يتمكن من النهوض وتنفيذ أجندته المتهورة.
بايدن من جهته ستجعله حادثة ترامب أكثر ضعفا وربما قد تسهم في جعله يرضخ لقرار الإنسحاب من السباق الرئاسي. فقبل ذلك كان بايدن ما يزال متمسك بقرار بقائه في الحلبة. وفي آخر خطاب له في ديترويت قدم أقوى عرض له على الإطلاق منذ خطابه عن حال الإتحاد في شهر آذار الماضي. وعدا عن أنه لم يرتكب أي هفوة إلا أنه بدا متماسكا ومن دون أي عثرات.
رغم ذلك فإن أحدا لم يوجه إشادة له، فالشارع الذي يراقبه لن يمنحه أي نقطة لصالحه كونه أضحى في موقف دفاعي وتبريري حول عمره وقدراته العقلية ما يجعله غير مؤهل للمنافسة. لا بل ستسجل ضده فورا وربما بشكل مضخم أي زلة لسان جديدة قد تصدر عنه. فوضعه بات كلوح الزجاج الذي تضرر والذي من غير الممكن أن يعود سليما بل بات أقرب الى أن ينكسر ويتحطم. وهو ما يعني باختصار المزيد من الضعف لإدارته.
أما ترامب وعلى الرغم من كل النقاط السلبية لبايدن فهو كان يعاني من صعوبة استمالة المترددين من أنصار الحزب الديمقراطي والذين يعارضون التجديد للرئيس الحالي بسبب خوفهم من أجندته الغامضة لبرنامج حكمه.
وقد ضاعف من هذا الخوف تلك الوثيقة التي عرفت بمشروع 2025 والمؤلفة من 900 صفحة وشارك على وضعها مئات من المحافظين البارزين والمقربين جدا من ترامب لا بل أن العديد منهم سيتولون مواقع أساسية في إدارته. ويتضمن البرنامج دعوات لترحيل جماعي للمهاجرين وتوسيع نطاق السلطة الرئاسية عبر تعزيز قبضته على وزارة العدل، وهو ما دفع بمنتقديه الى التنديد “بمحاولة إخضاع الوزارة للتأثير السياسي”. كذلك الدعوة لإلغاء وزارة التعليم.
وقد أدى ذلك الى تعثر محاولات ترامب لاختراق المجموعات الناخبة من المترددين والمستقلين.
لذلك عمد ترامب الى التنصل من أي التزام بمشروع 2025 ولكن من دون رصد أي تجاوب معه، فأقرب مستشاريه ضالعين في وضع هذه الوثيقة.
وقد يكون رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مغتبط بما حصل خصوصا قبل أيام من زيارته البالغة الأهمية الى واشنطن، ذلك أنه يرى في سيناريو ما حصل فرصة كبيرة له لاستكمال مشروعه الحربي وإنقاذ نفسه بعدما كان بدأ يشعر بالضيق إثر الحصار السياسي الذي فرضه عليه البيت الأبيض. فوفق آخر الإستطلاعات والتي أجرتها القناة 12 الإسرائيلية تبين أن 72% من الإسرائيليين يؤيدون رحيل نتنياهو عن السلطة بسبب مسؤوليته عن “طوفان الأقصى”. ولو أن 44% من هؤلاء يريدون رحيله فورا، فيما 28% يريدونها بعد انتهاء الحرب.
ويدرك نتنياهو أن الأمل بنجاته يكون ليس فقط عبر إطالة أمد الحرب بل أيضا بالذهاب الى حرب جديدة ضد حزب الله في لبنان، وهذا ما يعارضه البيت الأبيض بقوة. فالحرب ضد حزب الله تحظى بشبه إجماع داخلي بعكس ما بات عليه الوضع في غزة، ولكن هذه الحرب بحجة ماسة لدعم أميركي بالسلاح والذخائر والتقنيات واللوجستية العسكرية، وإلا فستنال مصيرا يكاد يكون مشابها للسابع من أوكتوبر.
وخلال زيارته الأخيرة الى واشنطن طرح وزير الدفاع يوآف غالنت مشروع توسيع دائرة الحرب في لبنان. وشرح أمام كبار مسؤولي وزارة الدفاع الأميركية الإستعدادات العسكرية الاسرائيلية والخطوط العريضة للخطط الموضوعة، ورفع لائحة مفصلة للأسلحة وأنواع القنابل التي يحتاجها، إضافة الى المساعدة التقنية من قبل أجهزة الرصد الأميركية المتطورة. لكن الجواب الأميركي جاء سلبيا خصوصا وأن المطلوب ترتيبات عسكرية تضمن الواقع الأمني عند جانبي الحدود، وهو ما نجح بالتوصل إليه المفاوض الأميركي آموس هوكشتاين بنسبة مرتفعة حتى الآن وبضمانة واشنطن.
وكان هوكشتاين قد صرح عن ذلك علنا وتلاه بعد ساعات معدودة بايدن.
وفي مؤتمر روما ومن ثم في اجتماع باريس جرى التفاهم على دعم الجيش اللبناني وتعزيز قدراته العسكرية والبشرية لكي يستطيع القيام بمهامه وضمان تطبيق القرار 1701 وتأمين تمويل يناهز المليار دولار في السنة الأولى ويشمل تطويع عناصر جديدة وتدريبها وتجهيزها بالمعدات المطلوبة، على أن يجري تأمين حوالي المئتي مليون دولار لكل سنة لاحقة. وبالتالي يتولى الجيش اللبناني بمساعدة قوات الطوارىء الدولية تولي الأمن في المنطقة المحددة وفق الإتفاق الحاصل، والذي يمنع بموجبه أي وجود مسلح خارج إطار الشرعية اللبنانية. وكل ذلك تحت مظلة الإتفاق السياسي الذي سيجري إبرامه.
لكن نتنياهو يريد الجنوح باتجاه الحرب وهو يبحث عن الأعذار في وقت تدرك فيه واشنطن أن دوافعه مرتبطة بمعظمها بوضعه الشخصي.
ولذلك يسعى نتنياهو لانتزاع موافقة ومساعدة واشنطن للذهاب الى الحرب لدى زيارته المرتقبة في 24 الجاري. وجاءت حادثة ترامب لتزيد من ضعف إدارة بايدن وهو ما يجعل نتنياهو أكثر تفاؤلا بتليين موقف البيت الأبيض. ووفق أوساط متابعة فإن نتنياهو يلقى تشجيعا ضمنيا من ترامب، وعلى أساس أن الحرب التي ستنشب في آخر أيام ولاية بايدن ستشكل اختبارا صعبا له وتعقيدات إضافية، فيما سيتولى ترامب صياغة مشروع التسوية كباكورة إنجازاته لدى عودته الى البيت الأبيض.
وهنا يصح السؤال ما إذا كانت الرصاصة التي أصابت ترامب في أذنه قد أصابت بايدن في رأسه وشرعت الأبواب أمام المخاطر في لبنان.
حتى الآن لم تسجل أي حركة عسكرية مريبة للقطع العسكرية البحرية الأميركية. فالانتشار ما يزال في إطاره العادي ما يدفع لاستبعاد السيناريو الحربي. لكن ذلك لا يمنع من إدراج ملاحظتين سريعتين:
الأولى بأن الإنتقال الى الوضع الحربي لا يستلزم وقتا طويلا بل أياما معدودة.
والثاني بأن هذا الإنتشار لحظ في بعض جوانبه إمكانية الشروع فورا في عملية إجلاء سريعة للمواطنين الأميركية من الساحل اللبناني.
واستطرادا فإنه لا بد من رصد زيارة نتنياهو بدقة لواشنطن والإشارات التي ستواكبها خصوصا لناحية إمكانية الإفراج عن أنواع محددة من الأسلحة والذخائر التي تطلبها إسرائيل وتحتاجها للحرب على لبنان.
والملاحظة الأهم ما يعتقده العديد من المراقبين بأن الدولة العميقة في الولايات المتحدة هي التي تقف وراء هذه الأحداث الكبرى. فهي تريد استكمال مشروع تعزيز الأطلسي ومواجهة التمدد الروسي وهو ما ظهر في نتائج مؤتمر الناتو منذ أيام. وهنا تصبح الخيوط متشابكة. فهي لا تتماشى مع المشروع الذي يحمله ترامب، وتريد إزاحة بايدن لفتح الطريق أمام مرشح آخر قادر على هزيمة ترامب ويحمل المشروع نفسه. وما عزز هذه التكهنات ما ظهر حول وجود متفجرات في سيارة الجاني الذي قتل ودفنت أسراره معه. فإذا كانت إمكانية الإستحواذ على بندقية مسألة سهلة إلا أن الاستحصال على المتفجرات مسألة صعبة جدا وتفتح باب الاجتهادات حول وجود جهة نافذة تقف خلف الجاني.
وثمة ملاحظات أخرى، أهمها، أنه وبخلاف الإنطباع السائد فإن أي أعمال شغب لم تسجل. ما يدفع للإعتقاد بأن خسارة ترامب للإنتخابات لن تعني بالضرورة إنفلات الوضع الأمني. وهنا يمكن وضع محاولة الإغتيال كاختبار قوي ومبكر للساعين لإسقاطه.
وفي الوقت نفسه فإن قدوم ترامب الى عالم السياسة كشف انقساما عاموديا في الشارع الأميركي وهو ما سيدفع بالمؤسسات الأميركية في مرحلة لاحقة لإعادة طرح السبل المطلوبة “لهضم” كل هذه التناقضات الموجودة داخل البيت الأميركي.
ما من شك أن الشرق الأوسط سيتأثر بالتطورات الحاصلة داخل السلطة الأميركية، حاله حال أوروبا أيضا.