عندما أشعل «حزب الله» حرب «المشاغلة» على الحدود، وربطَها بحرب غزة، خاف الكثيرون في لبنان من عواقب المغامرة. ولكن، في المقابل، تولَّد انطباع عام بأنّ انفجار الوضع جنوباً قد يحرّك مياه المستنقع ويفتح الباب لحل متكامل في لبنان.
ففي الأساس، مأزق لبنان في الداخل وعلى الحدود مع إسرائيل وسوريا مرهون بتعقيدات الإقليم، وكذلك مسألة الخلاف مع «الحزب» حول سلاحه ونفوذه وامتلاكه قرار الحرب والسلم. فقد كان كثيرون يأملون في أن تؤدي التسوية المنتظرة في غزة والملف الفلسطيني إلى تسوية في لبنان، تبدأ في الجنوب وتتمدّد إلى الداخل.
وما يعزز التفاؤل في هذا المجال هو أنّ الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين كان عشية اندلاع حرب غزة، في 7 تشرين الأول 2023، على وشك إطلاق المفاوضات بين إسرائيل ولبنان لترسيم الحدود البرية. وكانت المناخات إيجابية من جانبي إسرائيل و«حزب الله».
لكن حساب الحقل اختلف عن حساب البيدر. فحرب غزة لا تبدو على وشك الانتهاء في مدى قريب، لأنّ القيادة في إسرائيل تنتقل أكثر فأكثر إلى المتطرّفين، حيث يبدو بنيامين نتنياهو نفسه أكثر اعتدالاً من شركائه في الحكومة. وهؤلاء جميعاً يخططون لإمرار الأشهر الخمسة الباقية من عهد جو بايدن، وينتظرون مجيء دونالد ترامب ليفرضوا خططهم القديمة المجهّزة لغزة، أي وضعها تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة بعد تدمير غالبية مناطقها السكنية وتهجير قسم كبير من أهلها.
هذه المعطيات في غزة تفرض أن يكون لبنان في وضعية حرب لا يمكن تقدير طبيعتها وحدودها، لأنّ «حزب الله» لن يتراجع عن «المشاغلة». وهذا يعني استطراداً أن لا أفق للمأزق الداخلي الذي يتخبّط فيه لبنان.
اليوم، يسود اقتناع بأنّ من المستحيل إخراج لبنان من انهياره، لأنّ هذا الانهيار هو في الأساس نتيجة لصراع القوى الإقليمية والدولية، أو هو أحد فصوله. ولطالما عبّر الفرنسيون، في السنوات الأخيرة، من أن يدفع لبنان ثمن المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، ثم تأتيه الضربة القاضية من إسرائيل، على خلفية صراعها أيضاً مع إيران.
العارفون يدركون أنّ كل استحقاقات الداخل ستبقى متعثرة، وأنّ الحلول المنشودة للأزمات اللبنانية ستبقى متعذرة ما لم ينتقل لبنان والإقليم من الأزمات إلى الحلول، لأنّ «حزب الله» يربط نفسه بالصراع الإقليمي، كما العديد من القوى الأخرى العاملة في لبنان. وكذلك، لا يمكن الحديث عن استقرار سياسي وأمني واقتصادي في الداخل ما لم يتحقق الاستقرار على الحدود من الجنوب امتداداً إلى الشرق والشمال.
ولأنّ تحقيق هذا الانتقال من الحروب والأزمات إلى السلام والاستقرار ليس في أيدي اللبنانيين، يمكن الاستنتاج أنّ لبنان سيتخبّط في أزماته حتى إشعار آخر. كما يمكن الاستنتاج تالياً أنّ «حزب الله» لن يفرّط بأي عنصر قوة يتمتع به اليوم، بل إنّه سيسعى دائماً إلى تدعيم قدراته استعداداً للمواجهة، في الخارج كما في الداخل. وهذا ما يجعل القوى المعارضة له في موقع ضعيف، لأنّها ستفقد أوراق القوة التي تملكها، تباعاً.
يُقال في بعض الأوساط إنّ المعارضة في لبنان أصبحت يتيمة إلى حدّ بعيد. فالعلاقات بين الدول تقودها المصالح وليس أي شيء آخر. فإذا كان صحيحاً أنّ المعارضة تتلقّى في الأساس دعمها السياسي الخارجي من الولايات المتحدة وبعض دول الخليج العربي، فإنّ واشنطن تلعب اليوم دور «الوسيط اللطيف» بين إسرائيل و«حزب الله» عبر عاموس هوكشتاين وتساير إيران. وأما الخليجيون فتطبيعهم المستجد مع إيران يجعلهم أكثر توازناً في العلاقة بين «الحزب» وخصومه اللبنانيين.
لا يعني ذلك أنّ على المعارضة أن تستسلم. ولكن من الواضح أنّ أبواب الانتصار في المواجهات التي تخوضها مسدودة. والتجارب في هذا المجال لا تُحصى، من 14 آذار 2005 إلى 7 أيار 2008 إلى 17 تشرين 2019 إلى انتخابات 2022 التي أظهرت أنّ المجلس النيابي لا يتغيّر، ولو تغيّرت الفوارق في أعداد المقاعد.
لقد جاء البيان الأخير الذي أطلقته المعارضة، ووقّعه 30 نائباً، في سياقه السياسي المناسب. لكن المشكلة في التوقيت، لأنّ أحداً من المعنيين بالاستماع إلى هذا الصوت لم يكن «على السمع». فهل هناك مقاربات واقعية أخرى متاحة أمام المعارضة في بحر الانتظار الإقليمي الطويل؟